المرأة التي تكلمت والرجل الذي صمت 2
أعرف متى دخل. كنتُ أشرب كأسي على مهل. وكنتُ أفكر في الأزرق. هناك لحظات في الحياة لا يمكن تصديقها. حوادث ووقائع صغيرة قد تقع هكذا دون أن تعرف لماذا. كان الأمر هكذا، أعني شيئاً من هذا القبيل، لا أكثر ولا أقل. ومثل من يريد التأكد من شيءٍ يعرف سلفاً، أنه فاسد، استدرتُ. كان شعري الطويل يضايقني، وبسرعة أزحته، بأصابعي، ثم رأيت في الحين تلك القوة المذهلة، البراقة، تلك النظرة الثابتة اللامبالية، تلك النظرة المتكبرة، التي تترك أثراً متوهجاً على حواف العينين، تلك النظرة الحارقة، الجسورة، المدّعية، بالامتلاء والحضور، تلك النظرة السرية التي مع ذلك يمكن أن تشم رائحتها من بعيد. تلك النظرة التي تتفوق على نظرة القبطان آخاب. أعرف أنك لا تصدقني، لكنني لا يمكن أن أخطئ في أمر كهذا. أجل تلك كانت نظرته. تلك كانت نظر اللورد جيم.
- جوزيف كونراد!- كلا، اللورد جيم نفسه بلحمه وشحمه، يبدو أنه قد عاد أخيراً من إحدى مغامراته البحرية، بعد الفضيحة التي أساءت إلى سمعته.ثم صمتتْ.- ماريا، ماريا، إنني أصدّقكِ، وهل؟- كلا، أنت لا تفهم. كان قد تركني منذ زمن بعيد، كان يظهر ويختفي تماماً مثل الثعلب، وعندما رآني اقترب مني وبدأت أرتعش. بدأت أرتعش وأحسستُ بالخوف، وعندما نطق جملته الأولى أدرتُ وجهي وبدأت أفكر في ماريا.- ثم صمتتْ. - بدأت تفكرين في نفسك.- كلا، ها أنت لا تفهم أيضاً، قلتُ لك كنتُ في البداية أفكر في البحر والمحيطات، إلى أن ظهر اللورد جيم. لكنني كنتُ من القوة والصلابة بحيث أهملته على الفور، ثم بدأتُ أفكر في ماريا الأخرى. تلك التي عاشت في البرتغال. في تلك المدينة الصغيرة المطلة على الميناء البحري الشبيه بهذا الذي أحدثك منه الآن. أنت تعرف تلك القصة، «ثلاثة قروش من أجل بحّار»، تلك المرأة التي هجرها حبيبها البحار فتحولت إلى قديسة. كانت امرأة ضائعة فوجدت طريقها في السماء. كان الأمر قريباً من هذا، ولا أظن أن اللورد جيم سيراني ثانية، نادراً ما تتقاطع الخسارات الكبرى في اليابسة.ثم صمتتْ.- لا فائدة، لن تفهم. مَنْ كان المخرج، من كان ذلك السينمائي الذي... آه... تذكرته أظن أن اسمه راؤول رويز، أجل، هو الذي اخرج «ثلاثة قروش من أجل بحّار». ذلك البحار الذي ضُربَ حتى الموت وكان يتحدث عن الشعر. كانت فاعلية الألم هائلة، وكان الدود الذي يخرج من خلايا الجسد الإنساني رهيباً، ذلك الدود الذي يخرج من أجساد البحارة هو الشِعر الصافي. كان يقول:وأنا أعود إلى المنزل في آخر الليل، كان المطر يتساقط والشارع رطباً تذكرتُ ماريا، تلك المرأة الدنماركية، تذكرتُ نبرات صوتها، وشعرها الطويل، وتذكرتُ هذه الحكاية التي أحدثك عنها الآن، كنّا جالسين تماماً في مكان كهذا، أمام البحر.- ربما كانت حلماً.- كلا، كانت امرأة حقيقية، وربما كانت على حق.