لولو الانثى المميتة


نشر في 24-06-2010
آخر تحديث 24-06-2010 | 00:00
 فوزي كريم «الأنثى المميتة» مصطلح «لنموذج أول» ثابت في تاريخ الجنس البشري، يشير إلى المرأة المغرية بسحر جاذبيتها، والتي توقع الرجل في شراكها التي لا تُقاوم، وتقوده بدافع رغبة غامضة إلى حتفه. إنه «نموذج أول» كامن في ما يسميه يونج بـ «الذاكرة الجماعية» للجنس البشري، كثير الظهور في حقلي الأدب والفن. قدرة هذه «الأنثى المميتة» على سلب اللب، وتعطيل مقاومة الضحية من الذكور قدرة فائقة للطبيعة البشرية المعهودة. وليس غريباً أن تُرى امرأة من هذا الطراز بيننا، حتى اليوم، وكأنها تملك قُدراتٍ تُقرن بالساحرات، مصاصات الدماء، أو الشياطين. نموذج هذه «الأنثى المميتة» شائع في التاريخ، والفولكلور، والأساطير، في كل ثقافة، وفي كل عصر. من النماذج المبكرة «سوكومبوس»، وهي الشيطانة التى يُروى أنها كانت تجامع الرجال في نومهم. وكذلك «ليليث»، و»عشتار»، و»دليلة»، و»سالومي»، و»إفروديت»، و»سايرن»، و»ميديا»، و»هيلين»، والتاريخية «كليوباترا» ملكة مصر. ماركيز دي ساد كان كثير الإعجاب بنموذج «الأنثى المميتة»، لا يرى فيها تمثيلاً للشر، بل هي الخير كله، ولقد انتصر لها في روايته «جوليت». وكذلك وجدت لها مكاناً في لوحات الرسامين أدورد مونك، غوستاف كلِمْت، وما بعد الروفائيليين، ولم تكن بعيدة عن حظوة الموسيقيين بالتأكيد. إنها في فن الأوبرا ذات شعبية، ولكنها منذ القرن التاسع عشر أخذت صيغاً أكثر تعقيداً من النموذج الإغوائي الخالص، نجدها في «كارمن» للفرنسي بيزيه، وفي «سالومي» للألماني شتراوس، وفي «تاييس» للفرنسي ماسينيه (عن رواية شهيرة لأناتول فرانس)، ولعل خير شاهد على هذا النموذج هو «لولو»، بطلة الأوبرا التي بالاسم ذاته للموسيقي النمساوي ألبين بيرغ 1885-1935 (أخذها عن مسرحية للكاتب فرانك ويديكِنْد)، وهي بين يدي، وقد صدرت DVD عن دار OpusArte، نقلاً عن العرض الذي قدمته «رويال أوبرا هاوس» العام الماضي. شخصية «لولو» تختلف عن امرأة الإغواء التقليدية بنقاط عديدة، فهي هنا تفتقد الصلابة، وسهلة المكسر، عثر عليها الدكتور شون تبيع أزهاراً، وهي في الثانية عشرة، تبنى تربيتها، وجعلها عشيقة دائمة له، بالرغم من زواجها من عديدين بتشجيع منه. زوّجها من أستاذ الطب الذي سقط صريعاً حين فوجئ بها وهي في أحضان رسام جاء به ليضع لها بورتريهاً فنياً. ثم تزوّجها الرسام هذا، الذي سرعان ما قتل نفسه، حين اكتشف علاقتها الخفية بالدكتور شون. ثم أسرت ماركيزة واتخذتها عشيقة ومن بعد استهوت ابن شون، الذي صاحبها أسيراً، بعد قتلها لشون، وسجنها، وهربها من السجن، ثم موتها على يد جاك السفاح، الذي التقاها بشخص شون ذاته، عشيقها الدائم، وجلاّدها أيضاً. امرأة ذات سحر يُقرّبها من نموذج «الأنثى المميتة»، وكيان ضحيّة يُبعدها عنه بالمقدار ذاته. فهي ليست مثل «كارمن» ذات جاذبية مُنتصرة وروح حرة. فبالرغم من كثرة عشاقها، فإنها مأخوذة بحب واحد، وطبيعة صوتها الدرامي يتلوّن وفق الشخصية التي تُحاورها، إنها ضحية ذات جاذبية لا تخلو من إرادة لكل من يلتقي بها من الرجال. وهذه الخصائص انعكست على الموسيقى لتعزز من هدف الأوبرا في تعرية الفساد الاجتماعي وانحرافه، وكذلك هدفها في تقديم أسلوب موسيقي «تعبيري» جديد، كان قد بدأ مع الموسيقي شوينبيرغ، وتلميذيه بيرغ هذا، وفيبيرن. وهم عماد «مدرسة فينا الثانية»، التي هجرت السلم الموسيقي التقليدي، من أجل المزيد من حرية التعبير عن العالم الداخلي المتعارض والملتبس للإنسان. ومن أجل تقريب الأسلوب التعبيري الموسيقي هذا يمكن لأحدنا أن يستعرض بضع لوحات «تعبيرية» من الفن التشكيلي الألماني في هذه لفترة، ليرى عياناً الميل إلى التشويه، وقسوة الخطوط والألوان، وتعارضها.

ألبين بيرغ قليل الإنتاج، ولكن بالغ الأهمية والتأثير. وضع أوبرا «لولو» ولم يكملها بسبب موته المبكر. قبلها وضع أوبرا «فوتزيك» صارخة التعبيرية، ومعهما ترك عدداً من الأعمال الأوركسترالية، وأعمال موسيقى الغرفة، والأغاني، وهي في جملتها قليلة، ولكن وافية لإعطاء صورة لفنان معتدل، عُني بالتقنية التعبيرية، ولكن لم يغفل مسعاها للتعبير عن العواطف الأسيرة، المتعارضة داخل الإنسان. 

back to top