صباحات الموقع الباقية

نشر في 03-08-2010
آخر تحديث 03-08-2010 | 00:00
 طالب الرفاعي الذاكرة الإنسانية مزيِّنة ماهرة منحازة بعماء إلى صاحبها. تختار ما يحلو لها من ذكريات، فتصبّ لوناً زاهياً معطراً عليها، بينما تصبغ ذكريات أخرى بلون القار الأسود، معجون بألم موجع يأبى النسيان. لذا تجمع دراسات علم النفس، على أن الاعتماد على الذاكرة وحدها قد لا يكون كافياً ولا موضوعياً في تثبيت معلومات وحوادث سابقة، ما لم تكن تلك المعلومات موثقة بشكل واضح، يضمن دقتها، بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة لحظة حدوثها.

ذاكرتنا تكبر وتهرم معنا، لكن ذكريات بعينيها تبقى حاضرة وملونة ومتجددة. ربما لأنها شكّلت منعطفاً في مسيرة حياتنا، وربما لأنها تبعث على شيء من فرح أو أسى في نفوسنا كلما جئنا على ذكرها. وربما لأنها تضيف شيئاً من توازن مهم إلى لحظتنا الحاضرة.

أذكر سنوات عملي الطويلة في المواقع الإنشائية، بصفتي مهندساً مدنياً، أذكرها تلك السنوات بصداقاتها الحميمة، وبتعبها وشقائها، بين وجوه العمال المتعبة، في سعيهم المشروع إلى تحسين أوضاعهم، وتحقيق شيء من حلم كبير يأبى التحقق.

من أجمل الذكريات المطبوعة في خاطري عن سنوات عملي في المواقع، تلك الصباحات التي كان العمال، وتحديداً العمال والفنيين المصريين، يتبادلونها في تحيتهم لبعضهم البعض في ساعات الصباح الأولى: صباح الميه الباردة، صباح الأسمنت الأبيض، صباح «الكرين» العالي، صباح الطابوق الحلو، صباح الرمل الناعم، صباح الباشمهندس الطويل، صباح المعاش الغالي، صباح الخشب الذهب، صباح الحديد الأسمر، صباح طلمبة الديزل الجديدة، صباح مكيّف الهواء، صباح الباص... صباحنا ورد، صباحنا خير، صباحنا عسل، صباحنا خبز حار، صباحنا فرن حنيّن، صباحنا صحبة، صباحنا مشروع حلو، صباحنا شاي، صباحنا لقمة هنية، صباحنا محبة، صباحنا عتب.

لقد توقفت كثيراً أمام قدرة العامل البسيط، غير المتعلم في معظم الأحيان، على تطويع اللغة بشكل عفوي، وإلباسها ثوبا زاهيا لكي تنقل أحاسيسه ومشاعره. كما توقفت متأملاً وجه اللغة الأجمل، في إقبالها على محبة الناس لها، ومنحها لنفسها بطواعية وتحبب، والتلون بألف لون ولون بين شفاههم. وأخيراً تشكلها في تطويع الكلمات لتحمل معاني خارج سياقها المتعارف عليه، معاني مبتكرة وجميلة. فأي صباح يأتي محمولاً على الأسمنت، أو على «الكرين»، أو الديزل، أو الباص، أو الطابوق.

إن تعاملاً بسيطاً وعفوياً مع اللغة يؤكد بشكل جلي القدرة العجيبة التي تتحلى بها اللغة ككائن حي، يتشكل بسهولة ويسر وفق القالب الذي يضعه فيه الصانع. قدرة تفرض علينا إعادة النظر في الصيغ الجاهزة والجامدة والمستهلكة التي تعارفنا عليها، بحثاً عن صيغ وتعابير جديدة، تخلق ألقاً جاذباً في لحظة ومشهد يومي متكرر.

سنوات بعيدة، سنوات المواقع والعمل الميداني المعجون بالشقاء والتعب، سنوات من عمري مرّت لكن مذاقات حريفة ما زالت حاضرة بقلبي منها. مذاقات أعود إليها بين آن وآخر. أتأمل فيها وأرددها، فيمسّ قلبي شيء من فرح عابر. 

back to top