داود عبد السيد أحد المخرجين الذين ينتظر عشاق السينما المصرية والعربية أفلامهم، لا سيما أنها تعتبر كالأحداث الثقافية والإبداعية التي تسترعي اهتماماً وتثير نقاشاً خصباً جاداً. آخر نتاجه «رسائل البحر»، من كتابته وإخراجه.

Ad

على غرار أفلامه السابقة يقدّم عبد السيد تأملاً معمّقاً في الإنسانية والوجود، فـ{رسائل البحر» هي رسائل من الحياة تدعونا إلى تفهم الإنسان على نحو أشمل وأكثر نفاذاً.

يصحبنا عبد السيد في فيلمه الجديد في رحلة مع بطله الشاب يحيى (آسر ياسين) الذي يتخرّج في كلية الطبّ بصعوبة ويعمل طبيباً لفترة، إلا أنه سرعان ما يتخلّى عن مهنته، ليس لعجز فيه أو قصور أو تقصير سواء في التعلم أو العمل، إنما لأنه مصاب بـ «الثأثأة» في النطق ولا يحتمل أي سخرية في العيون أو على الشفاه، مقصودة أو غير مقصودة... ويتجه بعيداً إلى البحر، في الإسكندرية حيث يقطن، ويمتهن صيد السمك. مع البحر، لا يشعر بأي قلق أو توتّر وعندما يختلي بنفسه لا يصاب بتعثر في النطق! الآخرون هم الجحيم كما قال جان بول سارتر.

لكن مهلاً، ليس كل الآخرين، فأسرة الجيران البسيطة من أصل أجنبي، المؤلفة من فتاة «كارلا» (سامية أسعد)، نبض قلبه منذ الصبا تجاهها، وأمها (نبيهة لطفي)، تحبه ويحبها وتمنحه دفئاً وإحساساً حقيقياً بجمال الحياة وبالأمان.

تعمل كارلا في خياطة أزياء النساء، وفي اللحظة التي تشعر هي ويحيى بأنهما يقتربان أكثر بل قد يرتبطان العمر كله، يظهر فجأة مالك العمارة (صلاح عبد الله) الثري النهم الذي لا يكبحه وازع أو ضمير، ويقرّر طردهما وغيرهما من السكان لإقامة مشروعه الخاص وتعزيز مزيد من الاستغلال.

إنه نقيض يحيى في كل شيء، يصطاد السمك بالديناميت، ونراها تطفو ميتة، يتعامل مع الحياة بمنطق المستغلّ، بينما يتعامل يحيى معها برقي وبراءة وفطرة... فتغادر جارته ووالدتها الإسكندرية إلى إيطاليا وتتخليان عن حياتهما التي يألفونها. إزاء هذا الواقع تترنّح كارلا وتفقد حتى الحياة السويّة والفطرة الطبيعية، وتقع في «الغواية» والسقوط في نقيض ما هو طبيعي، أي ما هو نشاز وشاذ... هكذا ينتهي عصر بكامله ويتقوض أو ينحسر!

في المقابل يستمرّ يحيى في البحث عن ضالته، وما يلائم براءته، حتى يجد ذلك في نورا (بسمة)، فلا يهمه تقديمها نفسها له «كمومس»، بل جوهرها النقي، وهذا ما يهمها فيه أيضاً، لذلك يلتقيان إلى النهاية، على رغم المعوقات كافة.

الفيلم قصيدة سينمائية عذبة، تعلي من شأن الرقي والنقاء والنفوس الطيبة، وتدعو إلى غلبة القسوة المتعمدة والشرور المتعددة الأذرع كالأخطبوط من حولنا! كذلك يتميز بإبداع خاص وتوهّج فني في عناصره كافة: التصوير (أحمد المرسي)، المونتاج (منى ربيع)، الديكور (أنسي أبو سيف)، الموسيقى (راجح داوود) والتمثيل الذي أتقنه الممثلون في أداء أدوارهم سواء كانت طويلة أم قصيرة.

يستحقّ فيلم داود الجديد المشاهدة أكثر من مرة والكتابة والتأمل مجدداً، فـ «رسائل البحر» على غرار الحياة، رحبة عميقة، سطورها معبّرة ودقيقة، لكن ما بين السطور أكثر وأبعد أغواراً، وحين تشاهد الفيلم لا يسعك إلا أن تقول: «هذه هي السينما... وسحرها وسرّها!»