الحملة على «التوك شو»

نشر في 25-07-2010 | 00:01
آخر تحديث 25-07-2010 | 00:01
 ياسر عبد العزيز سيظل العقد الراهن عقداً فارقاً في تاريخ الحياة السياسية والاجتماعية المصرية لأسباب عديدة؛ إذ انطلقت خلاله طاقات كامنة كثيرة، وتبدلت أوضاع، وتغيرت قواعد، وانفتحت آفاق جديدة، في أكثر من مجال، للمحاولة والتجريب وبذل الجهد، رغم استمرار تردي الأداء العام، وانخفاض درجة النزاهة والكفاءة لدى قطاع عريض بين صانعي السياسة وأصحاب القرار.

ومن بين ما أتى به هذا العقد إلى المجال العام في مصر، فيما يتعلق بقطاع الإعلام، التطور المتسارع للممارسة الإعلامية على "الإنترنت"، والتمركز الناجح للصحافة المطبوعة الخاصة، واتساع تأثير الفضائيات، وتكرس أهمية برامج "التوك شو"، التي باتت تحصد النجاح باطراد، وترفد الصناعة بالعائدات الضخمة على الإعلان، وتصنع نجوماً، وتطور أداءهم، وتعكس الحالة العامة للبلد، وتضع أجندة الأولويات، وتحدد إطار القضايا، وتبلور الرأي العام، وتصوغ قدراً مهماً من توجهاته.

ليس هناك شك في أن برامج "التوك شو" في الفضائيات المصرية، سواء كانت خاصة أو حكومية، باتت تحتل مكانة تتسع باطراد، ليس على صعيد الإنتاج الإعلامي وأوساط الصناعة فقط، ولكن أيضاً على صعيد مقاربة الشأن العام، وتأطير توجهات الجمهور، وبناء الصور، وصياغة المواقف، وتطوير السياسات.

إذا سألت المصريين اليوم، سواء هؤلاء الذين يعيشون في الضواحي الفاخرة على أطراف العاصمة، أو أولئك المقيمين في أعماق الريف، عن تصوراتهم عن قضاياهم العامة، ومصادر معلوماتهم عن أوضاع البلاد، لعرفت إلى أي حد صارت برامج "التوك شو" مؤثرة وفعالة في بناء التصورات العامة وتلوين المزاج الوطني وبلورة التوجهات.

وبسبب خواء الحياة الحزبية، وتسلط الحكومة، وهشاشة المؤسسات العامة، والخلفية الثقافية والتاريخية التي تحكم الممارسة السياسية للمواطنين المصريين، وتكرس نجومية بعض مقدمي برامج "التوك شو"، تحولت تلك البرامج إلى منتديات سياسية أكثر نشاطاً وتأثيراً من الأحزاب نفسها، قبل أن تحاول أن تحل مكان تلك الأحزاب، وتفتئت على أدوار بعض المؤسسات، وتسعى إلى أن تكون سلطة عابرة للسلطات، بدلاً من كونها سلطة رابعة اعتبارية ذات دلالة رمزية.

وفي غضون ذلك، راحت الإيجابيات الناجمة عن اتساع دور برامج "التوك شو" وتأثيرها تتزايد، سواء فيما يتعلق بتحقيق الازدهار للصناعة والمستثمرين والعاملين فيها، أو في توفير منابر فضائية لبعض الأطراف التي سُدت أمامها الطرق على الأرض، بسبب الفساد أو تدني الكفاءة أو ترهل المؤسسات العامة، أو في خلق ضغوط مباشرة على المخطئين والمقصرين والفاسدين، الذين قد يسوء حظهم فيقعون في إطار التناول، ولا يهتم النظام، لسبب أو لآخر، بحجبهم عن الاستهداف.

وفي الوقت نفسه كانت السلبيات تبرز وتتزايد؛ سواء كانت تتعلق بأمراض النجومية التي أصابت بعض المقدمين، أو انحرافات بعض فرق الإعداد من جراء نقص الكفاءة أو استجابة للإغراءات، أو تردي كفاءة الصناعة بسبب قلة التمويل أو بخله، وعدم وجود ماكينات خاصة لجمع الأخبار، ونقص الاهتمام بالتدريب والتطوير والمتابعة والتقويم، وشيوع ثقافة الاستسهال والتسرع التي تضرب شتى مناحي الأداء الصناعي في مصر.

لكن ما يدعو إلى الاستغراب حقاً أن برامج "التوك شو" تزدهر، وتحقق الأرباح، وتخلق النجوم، وتصنع التأثير، وتقود المحطات، وتحمي بعضها من الإفلاس، وتحيط الرأي العام علماً بأغلب القضايا المحلية التي تقع في اهتمامه، وتؤطر توجهاته حيالها إلى حد كبير، لكن أحداً لا يمدحها على النحو اللازم، ولا يعدد تلك المزايا التي باتت تتمتع بها بين غيرها من البرامج والمواد الإعلامية.

أما ما يدعو إلى القلق، فهو بروز توجه عام سلبي نحو برامج "التوك شو"، ليس فقط في أوساط الحكومة، التي تعاني تفشي الفساد وتردي الكفاءة، ولكن في أوساط أخرى عديدة، بعضها ضمن العاملين في صناعة الإعلام نفسها أو غيرهم من السياسيين والخبراء والمفكرين، وهو توجه بات ملحاً بحيث يمكن تصور أنه يتخذ شكل حملة، تضع عنواناً عريضاً مزيفاً مفاده أن "الفضائيات تروج للسواد وتحرم المواطنين من الأمل".

والواقع أن قطاعاً في الحكم، أهدر القيم والمسؤوليات والفرص كلها للنهوض بدوره على نحو سليم، يجد في كشف العوار، الذي بات يهيمن على جوانب شتى في حياة المصريين، استهدافاً مباشراً له وتحجيماً لفرصه في الاستمرار وجني المزيد من عوائد الفساد، ولذلك فهو يسعى إلى إحباط "التوك شو" بشكله الراهن، والإساءة إليه بدعوى أنه "سوداوي لا يبحث سوى عن الخراب والسلبيات الفاقعة"، وانتقاده لأنه "يتجاهل الإنجازات"، وخداعه وإغوائه بمحاولة إقناعه بالقيام بدور "صانع البهجة وخالق الأمل". ولقد نجح هذا القطاع، للأسف، في تعبئة آخرين للغناء على اللحن ذاته، من دون أن تكون لديهم الأهداف أو الاعتبارات ذاتها.

ثمة عشرات الأخطاء التي ترتكبها برامج "التوك شو" يوماً بعد يوم؛ بعضها يتعلق بالانحيازات المبدئية، وسوء اختيار القصص، والفشل في انتخاب المصادر، وتدني مهارات إدارة الحوار، وبعضها الآخر يتصل بضعف الإنفاق على الإنتاج، وغياب بعض المفاهيم الأساسية في العمل الإعلامي، وتردي حال الكادر، لكن "التوك شو" لم يخفق في إنجاز مهمة "صناعة البهجة الوطنية"، أو "إعطاء المواطنين الأمل"، لأنها ببساطة ليست مهمته.

لقد افتأت "التوك شو" على أدوار مؤسسات الدولة، فراح يلعب دور مؤسسة الضمان الاجتماعي، ويعالج غير القادرين، ويشن الحروب على المنافسين والخصوم، ويهاجم مسؤولين ويشيد بآخرين، وينصب المحاكمات الفضائية، ويصدر أحكام البراءة والإدانة، ويبدو أن الدولة تريد أن ترد له الصاع صاعين؛ فراحت تطالبه بمواصلة الافتئات على أدوارها، وتجعله مسؤولاً عن أهم أدوارها على الإطلاق: "إسعاد الناس وخلق الأمل".

على "التوك شو" أن يسعى إلى الحد من أخطائه، وأن يستمر في أداء دوره، باختيار القصص التي تقع في حيز اهتمام الجمهور، ومعالجتها بمهنية وموضوعية، مهما كانت سلبية أو سوداء.

وعلى الحكومة، إن كانت راغبة وقادرة، أن تصنع قصص نجاح وإنجاز مهمة، لتتلقفها برامج "التوك شو"، فتخلق لدى الجمهور البهجة وتعزز الأمل. وإلى أن يحدث ذلك... ارفعوا أيديكم عن "التوك شو".

* كاتب مصري

back to top