جيل التفكير مقابل جيل التكفير
نشرت الصحافة المصرية يوم الأحد الماضي، أن تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا قد كشفت قضية جديدة لتنظيم قديم تابع لجماعة «التكفير والهجرة»، واتهمت النيابة التنظيم «بالسطو على عدد من المراكز التجارية الكبرى بوسط القاهرة، للاستيلاء على أموال وأجهزة كمبيوتر، بناء على فتوى مفتي التنظيم باستحلال سرقة هذه المراكز التجارية الكبرى، من أجل الدعوة إلى أفكار التنظيم الجديد»!
ليس مستغربا بالنسبة لي أن تكون هناك خلايا للتكفير في وقت يتراجع فيه التفكير. فمنذ سبعينيات القرت الماضي، ومصر كانت حاضنة ومنتجة ومفرخة لموجة كاملة من التكفيريين، ممن يكفرون بالدين أو يكفرون بالوطن أي التخوين، موجة على شاكلة أيمن الظواهري وكثير من القومجية الذين تربوا وترعرعوا في أحضان النظام لا خارجه. ومع ذلك فقد ظهرت في مصر هذه الأيام موجة أخرى تدعو إلى التفاؤل من جيل التفكير والذي سيكون المضاد الحيوي الذي يشفي جسد المجتمع المصري والعربي من مرض التكفير العضال. جيل التفكير بدأ يتشكل. فاليوم ظهرت على الساحة أصوات جديدة على المدونات و»الفيس بوك» يمكن تسميتها بجيل التفكير، جيل مناقض تماماً لجيل التكفير، لكن، وبكل أسف، جزءاً لا يُستهان به من نظامنا السياسي في مصر مازال متعلقاً بجيل التكفير، ويجد جيل التكفير في صحف النظام وإذاعاته وتلفزيوناته آخر «ملجأ أيتام» يحتمون به كموظفين وكتاب وعمال أرشيف ومقيمي شعائر، أما جيل التفكير فهو موجود في فضاءات الإنترنت وفي عالم «اليوتيوب» و»الفيس بوك» والمقاهي المصرية. جيل التفكير في بداية العشرينيات والثلاثينيات، جيل هرب من حصار الداخل إلى العالم المفتوح، فلم يعد هناك مَن يصدق أن مصر مغلقة على أهلها إلا جيل التكفير الذي بعضه في أروقة النظام أحياناً وفي المعارضات التي تشبه هذا الجزء من النظام. انتهى عصر المصري القبيح، وبدأت ثورة المصري الفصيح، هؤلاء شباب موجودون في كل ربوع مصرـ في القرى والنجوع، شباب وشابات لا يقرؤون ما تكتبه صحف الحكومة ولا يشاهدون تلفزيون الحكومة، كما أنهم يشككون وربما يحتقرون حيل المعارضة التى تشبه ألاعيب النظام... «الناس مشيت يا بتوع التكفير»، الناس وجدت في التفكير بديلاً حقيقياً وعملياً لفلسفة التكفير التى كانت الأداة الأولى للترهيب من قبل النظام والمعارضة على حد سواء. مصر الأخرى الآن بدأت في الظهور، مصر شابة وجزء من العالم لا مصر المنغلقة والخائفة. مصر تتحول بهدوء من عالم التكفير والهجرة إلى عالم التفكير وأحياناً الهجرة. هذه ظاهرة لا تتشكل في مصر وحدها، إنها الظاهرة التي أنتجت أربع نساء في البرلمان الكويتي، والظاهرة التى أنتجت كاتبات الرواية الجريئة في السعودية، والظاهرة ذاتها التي خلقت أجواءً وحمت الفن التشكيلي في الإمارات... فالعالم العربي كله يودع التكفير ويحتضن التفكير. الأنظمة العربية التي انحازت في السابق لجماعات التكفير، والمعارضات التي تمسكت بسلاح التكفير على مستوى الدين والوطن، لابد لها أن تعيد حساباتها إن أرادت أن تبقى لأن موجة التفكير أشد خطورة عليها، فالتفكير هو المحرك الأساسي للتغيير لا التكفير. التكفير يضع الناس في حالة إرهاب ورعب تناسب أمزجة الأنظمة الدكتاتورية، أما التفكير فلا يقبل إلا ما يقبله العقل. لم يعد هناك من يقبل مقولات الأنظمة المعلبة، لم تعد تنطلي على الناس أنظمة التكفير ولو وضعت عليها كل مساحيق التجميل في العالم. «الفيس بوك» هو وجه التفكير، وجه من دون مساحيق، لكنه يسحق معاقل التكفير. ما يكتب في بعض صحف الأنظمة اليوم أصبح كلمات معلبة منتهية الصلاحية كاللبن الفاسد، أعرض عنه الناس، وعلى الأنظمة المتعلقة بصفحات اللبن الفاسد وشاشات اللبن الفاسد، أن تعرض عن هذا أيضاً. هذا الكلام المعلَّب الإنشائي لا يغذي مدرسة التكفير بل يعلي صوت التكفير. وكما حمل أوباما للعرب والمسلمين المرآة واقتبس لهم آيات من القرآن تدعو للتسامح وحرية التعبير والعقيدة ونبذ العنف، ونظر المسلمون في مرآة أوباما، فرأوا صورة لا تشبه دينهم الحنيف، بل تشبه خطاب بن لادن العنيف، فإن من يجرؤ أن يحمل مرآة للصحافة في مصر، خصوصاً القومية منها، سيجعل هذه الصحافة ترى كيف أنها منحازة لجماعات التكفير على حساب التفكير. آن الآوان لصحف الدولة أن تفتح الباب لجيل التفكير، وتنأى بنفسها عن خطاب التكفير الجاهز والمعلَّب الذي يوحي بأن مصر ليست دولة من العالم الثالث، إنما من ناحية الإعلام قد أصبحت دولة من العالم العاشر. زيارة أوباما الأخيرة أربكت الخطاب المعلَّب والفاسد لجماعات التكفير بالوطن وبالعالم، فلم نجد تعليقاً واحداً واضحاً، سوى أننا في انتظار أن تتماشى الأفعال مع الأقوال. أوباما كان بمنزلة كاتم صوت لثقافة اعتادت تكفير كل ما هو أميركي، وعندما جاءهم رجل مختلف انعقدت ألسنتهم التي اعتادت أن تصنف العالم على أنه إما شر كامل (الغرب) وإما خير كامل (الشرق). جماعات التكفير لا مكان لها في عالم متداخل ومتمازج، فقد حان الوقت أن تحتضن دولنا جماعات التفكير، وتنفض عنها جماعات التكفير التي علقت بها منذ عقود.* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS