من منجزات قصيدة ألف ليلة وليلة لبورخيس أن نعود عبر هذه القصيدة وقصائد أخرى إلى فهم أنفسنا والعالم. لم يكن المجاز الأول في القصيدة سوى النهر، مياه الحقيقة التي تجري، وتحدث عنها هيرا قليط. النهر الذي لا يمكن عبوره مرتين. المجاز الثاني: البساط السحري، الطائر، ها هي المخيلة قد أحكمت قبضتها على الأرض والسماء.

Ad

المجاز الثالث: الحلم، ينبوع الشرق على عتبات الفردوس، أما المجاز الرابع فهو الزمن، بوصلة الكائن، وأثر الفناء.

إنها مجازات أربعة، في كل منها، تستعاد حكاية الإنسان، كل هذا وبورخس يمتدح العتمة. كل هذا في قصيدة واحدة فإذا بالفكر و/ أو التأمل، ينساب، ذائباً، موارباً، داخلها.

هل الشعر حالة، إحساس، فحسب، هل هو فكر خالص، هل القصيدة مزاج عابر، أم تراكم معرفي لخبرة الكائن؟

ليس يكفي أن يكون الشعر استنطاق حالات يومية، عابرة، فحسب، إذا لم تضبط، أو تدوزن هذه الحالات، وفق بوصلة الفكر، بحيث تنتزعنا القصيدة من الخواء اليومي، والعارض الى إدراك كينونتنا، أي الى التفكير وإرغام الجمال بأن يجلسَ على الركبةِ.

هذا الحوار المتجاور بين الشعر والفكر، هو الذي دفع هيدجر الى الانصات العميق للعوالم السريّة في قصائد هولدرلين، وريلكه، وجورج تراكل، مستنتجاً بأن حواراً شعرياً / فكرياً هو الذي يُثري تجربة الكائن ويُعمقها. وقبل هيدجر كانت التأملات النظرية عند الرومانسيين الألمان، محورها هو هذا الارتباط العميق، الذي وسع من أفق التجربة الجمالية وخبرة الكائن. هكذا سيثير شليغل مثلاً الى تعذر امكانية فصل الارتباط الأبدي، بين الشعر والفكر. هكذا أيضاً يمكن النظر مثلاً الى شعر رينيه شار أو ملارمية أو بول سيلان. لم تكن قصيدة «في انتظار البرابرة» لكافافيس سوى تعبير مؤلم وساخر عن العجز في ايجاد الحل. رغم أن الشاعر التشيكي الكبير ميروسلاف هولوب يذهب أبعد من ذلك اي الى اعتبار البرابرة الذين سيكونون نوعاً من الحل للمشاكل المتأصلة في المجتمعات والحضارات الشائخة، هم العلماء. إن الارتباك والفوضى وخيبة الأمل، الذي يصيب البلد كلّه، هو بعينه الذي أرادهُ كافانيس، شعرياً لإثارة خبرة الكائن. قليلة حقاً تلك القصائد التي تبقى، مثل جذر ينبت في الروح. لا يمكن مثلاً فهم قصيدة بدر شاكر السياب «أنشودة المطر» إلا بهذا المعنى، ليست خبرة الشاعر وفهمه، ما يُعليان هذه القصيدة فحسب، بل أيضاً في الإمساك بلحظة الحدس الكبرى التي ستكشف لنا مصير بلدٍ برمته. هكذا يتم تصعيد التجربة جوهرياً، لتعيد ترميم خبرتنا الحياتية والجمالية. أجل ليس الشعر «تنظيراً»، كما أنه ليس وصف حالات فحسب. انني أزعم بأن شاعراً يجلس في مقهى ليُطيّر صوراً شعرية، في الهواء، وبطريقة مجانية أي لا على التعيين، لا يضر بالقصيدة وحدها فحسب بل، يضر أيضاً بالحالات الصادقة نفسها. لأنه ببساطة لم يكن ذلك الشاعر يمتلك تلك الدقة والمعرفة، التي أوصانا بها مالارميه. والأمر كله على أي حال ليس «رمية نرد» فحسب.