حين نحدق في عيون أطفالنا الرطبة ونتمعن نظراتها القلقة، نكتشف أنها تحمل مخاوف لا تتحملها قلوبهم الغضة، ففي عالمنا المضطرب يعاني الكثير من الأطفال التوتر والضغوط والاكتئاب، ويفاقم من ذلك الأهالي الذين يعتقدون أن أساليب الاستبداد والدكتاتورية هي أساليب القوة في التحكم والسيطرة على سلوك الأطفال وتصرفاتهم، وما هي إلا دليل ضعف وفشل في التواصل وفهم عملية النمو المعقدة وحاجة الأطفال إلى دعمنا في مواجهة مخاوفهم وتوفير الاستقرار والثقة والتوازن الداخلي، لتتحول تلك المخاوف إلى رهاب مدمر يصعب علاجه إن استفحل، رهاب من الآخر ومن الاختلاف ومن التميز والإبداع، لتحاصرهم المخاوف وتكبلهم القيود أينما حلوا، وليستسلموا لهزات القارب العتيق وشراعه المتهالك الذي لا يصمد بوجه الصخور المحطِمة.

Ad

كان الله في عون الأطفال الذين يعيشون حياة عسكرية لا تطاق، يتم توجيههم من خلالها بأوامر وكلمات سلبية، كافعل هذا ولا تفعل ذلك، وهو أسلوب أثبت أنه فاشل وفاسد وفاقد للفعالية، فابن خلدون يقول: «إن من يعامَل بالقهر يصبح حملاً على غيره، فهو عاجز عن الذود عن نفسه، وتعود الذل والخنوع، ولذلك صارت له هذه عادة وخلقاً». إن سر الحياة والسعادة يكمن في فهم معنى الاعتدال بين تطرف الإفراط والتفريط الذي تكلم عنه الجاحظ، أي التوازن الأخلاقي، فالحياة كالغابة مليئة بالأشجار والزهور والطيور ولكنها تحوي الحيوانات المفترسة والمتوحشة، علينا أن نعلم صغارنا حب الزهور ومواجهة الوحوش في الوقت نفسه، أي أن نوازن بين المرح واللعب والجد والحزم، ومنحهم الحرية وإعطائهم فرصة الاختيار واكتشاف واقع الحياة من خلال المغامرة واللهو ووضع القوانين والنظم من دون مبالغة وتسلط، وبين توفير الحماية وسبل الراحة وتحميلهم المسؤولية دون أن نضغط عليهم ونحملهم أعباءً أكبر منهم، بمعنى أن نبني شخصية متوازنة تجيد مهارات التعامل مع الحياة وتمد الأطفال بالشعور بالأمان والاستقرار، بعيدا عن أساليب القسوة والتحقير والإهانة وفي الوقت نفسه بعيدة عن الاتكالية والتدليل والحماية الزائدة، وهي المعادلة الصعبة والتحدي الأكبر اللذين يتطلبان وقتاً وجهداً وتركيزاً من قبل الآباء والأمهات.

علينا أن نصقلهم منذ الطفولة المبكرة بالذكاء العاطفي الذي أثبتت الدراسات أنه لا يقل أهمية عن الذكاء المعرفي في تحقيق النجاح المستقبلي، والذكاء العاطفي هو القدرة على فهم مشاعرنا والتعبير عنها والتعاطف مع مشاعر الآخرين وتحقيق محبتهم والقدرة على التعامل معهم. وهو أيضا القدرة على اتخاذ قرارات مسؤولة، وتعلم الاستقلالية والتعاون والتحكم بالانفعالات العصبية والمشاعر السلبية كالإحباط والقلق والعصبية وسهولة الاستثارة والشعور بالذنب والعدائية من خلال التسلح بالمهارات الاجتماعية، كتعلم التفاؤل ومهارات القيادة والثقة بالنفس وتقبل الذات وتقديرها، والأهم من ذلك هو القدرة على التحكم الذاتي دون مساعدة أو مراقبة الأهل، الأمر الذي ينمي وعي الضمير حتى في غياب السلطة من خلال تعلم المسؤولية والقدرة على التفكير والحق في اختيار السلوك الأفضل، فلنبدأ بأنفسنا وبتنمية ذكائنا العاطفي وفن الاستماع والتواصل، لأن أطفالنا يراقبوننا ويلاحظوننا ويقلدوننا، ولنحد من الضغوط التي نتعرض لها لنخفف من ضغوط أطفالنا، فتوترنا يفاقم من توترهم وهدوؤنا واسترخاؤنا يزيدانهم طمأنينة وسلاما.

بعض العيون الصغيرة تحمل بريقا ينير دروبنا ويبعث فينا الطمأنينة، وبعض العيون تحمل الدمعة لفقدانها الحنان والتعاطف والرفق، فالأهالي المرحون المسؤولون يجعلون الحياة الأسرية مصدراً مهماً للهدوء النفسي والتخلص من إحباطات الحياة الخارجية، والأهالي المتجهمون العابسون الصارخون يفاقمون من السلوك السلبي ويثبتونه دون وعي وإدراك، والأطفال المحرومون هم ورود بريئة قطفت وفقد عطرها قبل نضوجها وذبلت في أيدينا قبل أوانها، أما الأطفال الآمنون فهم مشاريع ربيعية مزهرة نزرعها، لنحصد عبق الحياة ورونقها، تجعلنا نمجد الحياة ونعشقها، فلننقل صغارنا المحرومين من قارعة الطريق المهترئة إلى الحدائق المزهرة وأراجيحها، ولنردد ما تغنت به فيروز «يا زهر الرمان ميل بهالبستان... تيتسلوا صغار الأرض ويحلو الزمان».

فلنخفف من روع القلوب الصغيرة ونحاول الاستماع إلى دقاتها المتسارعة، ونتمعن في عيونهم البريئة، ونمسح الرطوبة عنها، وننزع الخوف منها، ولنتفهم قلقهم ومشاعرهم ونمنحهم الدفء العاطفي والرضا عن النفس، ونشجعهم على أن يعيشوا الطفولة ولا شيء غير الطفولة، عوضاً عن الضغط عليهم لينضجوا قبل الأوان، ولنلجأ لمعالجتهم بالإيحاءات الإيجابية والفخر بإنجازاتهم البسيطة وتغليب الثواب على العقاب بدلاً من رصد أخطائهم وتوبيخهم ونقدهم وإطلاق الأحكام المطلقة والأوصاف المدمرة التي تستخف بمشاعرهم وتقديرهم لذواتهم، ولنفهمهم الحياة الواقعية التي لا تأتي دائماً بما يرغب به الإنسان ويتمنى، ونعلمهم جمال الحكمة التي تقول إن «الحياة مليئة بالحجارة فلا تتعثر بها بل اجمعها وابن بها سلماً نحو النجاح»، ولنتح الفرصة لمواهبهم ومهاراتهم لتنمو وتتطور بدلاً من الضغط عليهم ليكونوا كاملين، فالكمال مناقض للطبيعة البشرية، ولنسع ليعيشوا بسلام وانسجام مع النفس ويركزوا على قدراتهم الذاتية وتحفيز الإبداع فيها بدلاً من توقنا أن يكونوا نسخاً طبق الأصل منا، ولنعدّهم كي يمضوا في الحياة من دوننا ويتغلبوا على صعوباتها بأنفسهم عوضاً عن الحماية الزائدة والمبالغة في تسهيلها. هي بالفعل معادلة صعبة، لكنها تستحق المحاولة.

ولنحضنهم ونطبع القبل على وجنتيهم، ونمنحهم حباً غير مشروط، فلنترفق بصغارنا، فلذات أكبادنا.