موقع الديني السياسي في وثيقتين معارضتين سوريتين
يعتقد على نطاق واسع أن الإسلاميين السوريين قوة مهمة سياسياً، حتى لو تعذر قياس قوتها بحكم التقييد السياسي المتشدد لنشاطهم من قبل السلطات. فما هو موقع الإسلام والإسلاميين في وثيقتين معارضتين صدرتا أخيراً؟ وكيف تفكران في السياسة، وفي دور «الإسلام السياسي»؟ صدرت أخيراً وثيقتان سياسيتان عن جهتين معارضتين في سورية. مشروع برنامج سياسي للتجمع الوطني الديمقراطي، وهو ائتلاف معارض تشكل قبل ثلاثين عاماً من أحزاب ذات أصول يسارية وقومية عربية؛ و»مشروع وثيقة توافقات من أجل بلورة التيار الوطني الديمقراطي»، صادرة عن مجموعات لها التكوين السياسي والإيديولوجي نفسه. بين الجهتين غير منظمة مشتركة، ما يشكل واحدة من نوادر مرشحة للتكاثر في الحياة السياسية السورية. لكنهما تتوحدان في كونهما جهتين «علمانيتين»، وفي تمحور توجهاتهما السياسية حول «الديمقراطية».
ستقتصر هذه المقالة على تناول موقع الشأن الديني السياسي في كل من الوثيقتين. لا يكاد ذلك يحتاج إلى تبرير. فجملة الظواهر السياسية والاجتماعية والقانونية المتصلة بدور الدين العام ليست قليلة ولا ضعيفة التأثير في سورية اليوم، وهي حاضرة في تفكير النخب السورية بكثافة، وتشكل واحداً من محوري استقطاب أساسيين لكل تفكير ونشاط عام في البلد (المحور الآخر هو «الدولة»). ويعتقد على نطاق واسع أن الإسلاميين السوريين قوة مهمة سياسياً، حتى لو تعذر قياس قوتها بحكم التقييد السياسي المتشدد لنشاطهم من قبل السلطات. فما هو موقع الإسلام والإسلاميين في الوثيقتين المشار إليهما؟ وكيف تفكران في السياسة، وفي دور «الإسلام السياسي»؟ الواقع أن الموضع غائب غياباً مطلقاً عن إحدى الوثيقتين. ولا كلمة واحدة في وثيقة «توافقات» التيار الديمقراطي. أما في «مشروع البرنامج السياسي» للتجمع الوطني الديمقراطي فقد وردت فقرة فرعية عنوانها: «الدين»، تقول إن ميدانه هو «المجتمع المدني»، وأنه يفقد «مضمونه الروحي ووظيفته الأخلاقية» إذا سخر لأغراض سياسية، أو جعل «غطاء للجهل والتخلف والطائفية». «فالدين وجد من أجل الإنسان وتقدمه»، و»إصلاح الفكر الديني وتجديده وتنويره... من أهم عوامل النهوض والتقدم». وتؤكد الوثيقة إيمان الجهة المصدرة لها بحرية الفكر والمعتقد والتعبير وممارسة الشعائر الدينية بما يعزز «وحدة المجتمع» و»الاندماج الوطني». وتدين «التعصب والعنف وسياسات التفكير والانعزال والكراهية». كلام طيب في عموميته، لكن لدينا «دين» لا يقيم في البيت الذي يفضله له التجمع الوطني الديمقراطي، «المجتمع المدني»؛ ولا هو يخفي تطلعاته السياسية وطموحه إلى السلطة العمومية، غير مهتم في ما يبدو بفقد «مضمونه الروحي». وهناك تشكيل سياسي إسلامي يُعتقد أنه القوة الثانية في البلاد إلى جانب النظام، في ما يقرّ ديمقراطيو «التجمع» أنهم ليسوا قوة سياسية وازنة. فكيف يستقيم تناول الإسلاميين بفقرة تتكلم عن الدين بعامة؟ وكيف يتجاهل «التجمع» أنه تشكل أصلاً قبل جيل، بينما سورية على أعتاب أزمة وطنية متفجرة، كان طرفاها هما النظام والإسلاميين؟ وأن علاقاته بالإسلاميين في الواقع أكثر تعقيدا وتفاعلا مما توحي الفقرة الفاترة المذكورة؟ وما فائدة البرنامج السياسي إن لم يكن موجهاً عاماً للسياسة؟ وكيف نفهم، من جهة أخرى، غياب كل ما يتصل بالإسلام السياسي والإسلام عامة والقضايا الدينية السياسية، والدين عامة، في «توافقات» التيار الوطني الديمقراطي؟ هل يعتقد التيار أنها غير مهمة؟ أم ربما هذه طريقته في إبداء الحرص على «الوحدة الوطنية»؟ نرجح من جهتنا أن الأمر يتعلق بعادات فكرية وسياسية ألِفت أن تطابق بين الدولة والسياسة، وأن لا ترى السياسة في الدين والدين في السياسة، رغم أنها مشغولة البال بالديني السياسي غالبا. هناك انفصال بين الخبرة الحية التي يشغل الدين وتظاهراته السياسية موقعاً كبيراً فيها والتي تعبر عن نفسها في الخطابات الشفهية، والتفكير السياسي «التقدمي» التقليدي، المدوّن في وثائق مكتوبة، والذي لا موقع للدين فيه. ولعل انشغال البال بشؤون تحيل إلى الظاهرات الدينية السياسية حاضر في إحدى فقرات «التوافقات» التي تستخدم مرتين وصف «آمن» للتحويل الديمقراطي الذي ترومه في البلاد، منكرة في آن «استخدام العنف الداخلي» و»منطق الحقد والثأر السياسي والعصبيات المختلفة». ينطوي هذا الكلام على توجس مما لا يكاد يسمى. لكن السوري المتابع يعرف أنه يتصل بصورة خاصة بالشؤون الدينية السياسية، أي بالطائفية. فكيف نتكتم على شيء نتوجس منه؟ هل نظن أن الامتناع عن تسمية الوقائع تسهم في تغيير الواقع؟ ومن أين يأتي «التحويل الديمقراطي»، «الآمن» فوق ذلك، بينما يجري تجاهل المشكلات المقلقة؟ هذا تفكير سحري، ينبع على الأرجح مما ذكرنا للتو من انفصال متأصل للتفكير السياسي عن الخبرة الحية، واتصاله بدلاً منها بطقوس تعبيرية لم يعد لها مضمون محدد، ولا يكاد يتعارف عليها غير وسط ضيق من «مناضلين» يعيشون في عوالمهم الإيديولوجية والاجتماعية والجيلية الخاصة. لكن نشتبه أيضا في أن من أسباب الغفلة عن الدور السياسي للدين ارتباك فكري. من جهة الخوف السياسي والنظري من المشكلة الطائفية. ومن جهة ثانية فقدان الثقة بالنفس والعجز عن جمع معارضة الدين في تشكله السياسي إلى معارضة الدولة في تشكلها الاستبدادي. يجري التغطية على الارتباك والعجز بالركون إلى اللياقات السياسية واللغوية السائدة، وهي تضرب بحجاب صفيق على كل ما يتصل بالديني السياسي، الطائفية بخاصة. في المحصلة ليس هناك سياسة دينية عند المعارضين السوريين، مع ما هو معلوم من أن الدين، الإسلام بخاصة، محور استقطاب سياسي أساسي اليوم في سورية. هذا ليس مقبولاً ولا مفهوماً. لا نفهم لماذا يصعب بلورة سياسة مبادرة، تجمع بين الاعتراف الواقعي بالإسلاميين والاعتراض على نموذجهم الاجتماعي والسياسي، سياسة متزنة وجسورة، تقوم على الاستقلالية الكاملة للديمقراطيين والعلمانيين حيال الإسلاميين، كما بالطبع حيال النظام؟ هذا ليس ضرورة سياسية فقط، وإنما هو مقوم لهوية الديمقراطيين بالذات. * كاتب سوري