حدثتني وتعابير وجهها تحكي تفاصيل سنوات الخوف والجوع والألم التي مازلت أتذكرها رغم أنني وقتها لم أكن أتجاوز السابعة عشرة من عمري، قالت لي: بعد معركة "العينة" التي قتل فيها فهد بن جلوي، نزحنا (قبيلة العجمان) إلى جنوب العراق، وتحديداً بالقرب من مدينة "صفوان"، وهو ما يعرف في تاريخ القبيلة بـ"الأشمالة الثانية"، نسبة إلى التوجه شمالاً، حيث إن العجمان سبق أن نزحوا إلى منطقة حائل شمال المملكة بعد موقعة "كنزان" التي أصيب فيها الملك عبدالعزيز وقُتل فيها شقيقه سعد رحمهما الله.

Ad

استرسلت بالقول وهي تستعيد شريط الذكريات: أقمنا في جنوب العراق فترة من الزمن، قبل أن تأتينا قوات "أبو حنيك"، ممثل الحكومة البريطانية في الصحراء الجنوبية، وأرغمتنا على التوجه إلى جنوب الكويت وتحديدا إلى منطقة "القرعة" مستخدمة السيارات والبنادق وطائرة ترمي علينا القنابل. كان الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وجيشه بانتظارنا ولم نكن نعرف ما هو مصيرنا.

تضيف: تم جمعنا كنساء وأطفال في بيوت شعر تحت الحراسة بعيداً عن رجالنا، وكان الملك عبدالعزيز، رحمه الله، يتفقدنا بين فترة وأخرى ويأمر الحراس بتوفير كل طلباتنا، وكان رحيماً جداً بنا، وبعد مفاوضات قصيرة تم الاتفاق على أن تصادر أسلحة القبيلة وخيلها، فيما يتم اقتسام الإبل قسمة أخوين بين صاحب الإبل والدولة، وكان زوجي من أصحاب الإبل فرفض هو ومجموعة قليلة معه، وحاولوا الهرب بإبلهم فتم قتلهم.

سألتها كيف عرفتِ بمقتل زوجك، قالت: سمعنا إطلاق نار في الجهة الأخرى، وبعد يوم واحد رأيت رجلاً يرتدي جبّة (معطفا)، فسألته أين صاحب هذه الملابس إنها ملابس زوجي؟ لم يجبني ودفعني بيده، فلحقته وأمسكت به، وقلت له أستحلفك بالله أن تخبرني هل هو حي أم ميت؟ أخبرني فقط من أجل هذا الجنين الذي في بطني حيث كنت حاملاً في شهري الخامس، نظر إليّ وقال: لو كان حياً لما ارتديت ملابسه، فعرفت أنه قتل. جدتي هي من روت لي هذه القصة، ومن قُتل هو جدي لأمي، أما الجنين الذي كان في أحشائها فكانت والدتي التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى الأسبوع الماضي، فهي من مواليد تلك السنة الصعبة التي تعرف باسم سنة "القرعة" أو سنة "الخفرة" نسبة إلى إلقاء القبض على قادة حركة الإخوان ومنهم نايف بن حثلين وفيصل الدويش، وفي تلك السنة أيضا قتل جدي لأبي في إحدى الغزوات، وقتها كان الموت في المعارك من دواعي الفخر كونه من صفات الشجاعة، فالرجال آنذاك لا يفضلون "ميتة البعير"، فمن يموت على فراشه ليس كمن "يقتل"، نظراً إلى الثقافة السائدة في تلك الحقبة الزمنية.

توفي والدي ولم أبلغ العاشرة من عمري بعد، فتولت أمي أمر تربيتي أنا وإخواني، ورغم أنها لا تعرف حرف الألف من "كوز الدرة"، على حد وصف الإخوة المصريين، فإنها كانت حريصة على أن نكمل تعليمنا، وقد نجحت في هذه المهمة، وكنت أشعر بقسوتها عليّ عندما كنت صغيراً، لكنني استوعبت سبب ذلك فيما بعد، لأنها كانت أماً وأباً في الوقت نفسه، وهو دور يتطلب مواصفات خاصة لا تتوافر في الكثير من النساء.

كانت حياة والدتي طويلة وعريضة في نفس الوقت، طويلة في سنيها، وعريضة بأحداثها، ورغم ظروف الزمن ومشاكل الحياة وهي المسؤولة عن أيتام، لم أرها منكسرة أو محبطة في يوم من الأيام، ولم أذكر طوال حياتي أنني شاهدت دمعة على خديها، رغم أن قلبها أرق من الحرير.

في مرضها الأخير، وهي على فراش الموت مدركة أنها أيامها الأخيرة في هذه الحياة، وبعد أن فقدت القدرة على الكلام، لم تدمع عيناها، لأن البكاء كما كانت تقول لي دائماً، خلق للنساء وليس للرجال، وهي كانت امرأة بقلب رجل، وحتى عندما كنت أنظر إلى عينيها قبل وفاتها لم تكن نظراتها تدل على خوفها من مقابلة خالقها، بل كانت نظراتها تقول لي، أريد أن أرى أطفالك قبل أن أموت.

رحمك الله يا أمي، تركتِ هذه الدنيا ورحلتِ عن كل شيء إلا من عقلي وقلبي، وسأظل أتذكر تلك الجملة التي دائماً طالما رددتها على مسامعي، عندما كنتِ تقولين: يا ولدي فيك ميزة عن غيرك، فأنت إن "رحت" مع المصلين صليت، وإن "رحت" مع المغنين غنيت. قد تكون هذه ميزة أمي، وقد تكون عيباً، لا أدري، لكنني أدرك أنك عشتِ حياة صعبة منذ ولادتك في زمن الخوف والجوع، إلى وفاتك في زمن الأمن والرخاء والنعيم.

***

" يا ليتني بينك وبين المضرة... من وخزة الشوكة إلى سكرة الموت"