في عام 2007، أعلنت أبوظبي إنشاء «جائزة الشيخ زايد للكتاب»، تقديراً لمكانة هذا الزعيم الكبير ولدوره الرائد في بناء الدولة الإماراتية وتعزيز مقدرات إنسانها، وهي الجائزة التي برهنت سريعاً على تحليها بقدر معتبر من المصداقية والاحترام.

Ad

وفي يوم 3 مارس المقبل، سيعقد حفل كبير في العاصمة الإماراتية لتكريم الفائزين بالدورة الحالية؛ ومن بينهم الدكتور عمار علي حسن مؤلف كتاب «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر»، وهو الكتاب الذي حصل على الجائزة في فرع التنمية وبناء الدولة.

والواقع أن من يقرأ هذا الكتاب أو يفحص المسيرة العلمية لمؤلفه، يدرك بجلاء أن فوزه بالجائزة قد صادف توفيقاً كبيراً، ويتعزز لديه الأمل في أن تصبح الجوائز العلمية والثقافية العربية آلية فعالة لمكافأة الإبداع وتشجيعه.

فعلى مدى أكثر من عقدين، ظل الدكتور عمار علي حسن يرفد المكتبة العربية بإسهامات تتميز بالتفرد والعمق، لكنه فى كتابه الفائز بالجائزة يخطو خطوة واسعة نحو صياغة «كتاب عمدة» في تخصصه، تتوافر له جميع مقومات المرجع الأساسية، وينطلق من دراسة نظرية محيطة ومبهرة، كما يستند إلى جهد ميداني غاية فى الإحكام.

استفاد مؤلف الكتاب من تكوينه الأساسي كباحث في علم الاجتماع السياسي، كما ساعدته خبراته الممتدة في مجال البحوث السياسية، ووجدانه الفني كأديب وقاص معتبر، ومقاربته الطازجة للشأن العام والحدث الجاري ككاتب منتظم في أكثر من صحيفة عربية مهمة، في مقاربة موضوع شائك ومعقد، تختلط فيه الأسطورة بالحقيقة، والروحي بالزمني، والعابر الطارئ بالعتيق الضارب في البقاء والرسوخ.

أنجز عمار علي حسن أطروحته عن «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر» على مدى نحو ١٦ عاماً، ليضع خلاصة تحليلية مركزة لظاهرة عُرفت كثيراً ضمن الأدبيات على أنها من تجليات «الدين الشعبي» أو «دين الحرافيش». وامتلك من الجرأة قدراً كافياً، فكشف اعتواراتها ومصادر الخلل فيها، كما تسلح بكثير من الحياد والمنطقية العلمية، فلم يتورط في معالجات متربصة أو ينطلق من مواقف غير منصفة، وفي جميع صفحات الكتاب الـ٦٨٢، ظل قابضاً على الجاذبية ممتلكاً الإيقاع، وكأنه يبحر ببراعة في سياق نص أدبي بديع.

سيكون من الصعب جداً إجمال نقاط البحث الرئيسة لهذا المصنف البديع في تلك المساحة المحدودة، خصوصاً أن الكتاب احتوى تأصيلاً للمفاهيم الأساسية للصوفية والتنشئة السياسية، وشرحاً وافياً للقيم السياسية موضع الدراسة، مثل الحرية والعدالة والمساواة والانتماء والتسامح، كما حلّل ما سماه «التحولات الخمسة للدين»، مفصلاً كيف تحول التدين إلى أيديولوجيا، ثم فلكلور، ثم أسطورة، ثم تجارة، قبل أن يوضح كيف تحول إلى خطاب ثقافي سائد.

يرصد الكتاب تأثيرات الصوفية في السلوك السياسي للفرد، كما يعرض للعلاقة بين المتصوفة والحكام على مدى العصور المصرية الفائتة، فضلاً عن دراسته لموقع الدين في الحياة السياسية المصرية.

يقول عمار علي حسن في هذا الصدد: «لقد مرت العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذا البلد بمحطات ثلاث، بدأت بالتأليه، وانتهت بالتكفير، ومرت بالتبجيل، من دون أن تفارق في كل مرحلة تنتقل إليها بعض خصائص المرحلة التي تسبقها، في تواصل واستمرارية ميزت جوانب عديدة من تاريخ المجتمع المصري».

يفصل المؤلف سمات الملك في مصر القديمة في نظر رعاياه، فيقول إنه كان «شخصية إلهية مقدسة، ولذا لا يصح أن يخاطبه أحد مباشرة، ويتمتع بعلم إلهي، يجعله عالماً بكل خافية، ومن ثم لا يمكن لأحد أن يفكر في التآمر عليه، أو تشكيل تنظيم معارض له، وأن كل ما يتفوه به واجب النفاذ، ولابد أن يتحقق فوراً، لأن مشيئته هي القانون، ولها ما للعقيدة الدينية من قوة. وفي وجود الملك لم تكن هناك حاجة إلى مؤسسات سياسية، فما ينطقه يغني عن القواعد القانونية المفصلة، وما يراه يختزل الكثير من أدوار الهيئات السياسية والاجتماعية، ومن الخطيئة سن ما قد يقيد من سلطة الملك وجبروته».

تشعر حين تبحر في قراءة هذا الكتاب، الصادر عن دار العين للنشر العام الماضي، أنه أجاب عن أسئلة كثيرة تتعلق بدور الظاهرة الدينية في السياسة المصرية عموماً، كما أنه يقدم خريطة طريق واضحة للمجتمع والدولة والطرق الصوفية في آن، لمفاداة الآثار الضارة لبعض التجليات الدينية وتكريس أدوارها في خدمة الحداثة وتطوير الخطاب الديني وصولاً إلى إصلاح ديني رآه المؤلف ضرورة لأي إصلاح سياسي مستقبلي.

يخلص المؤلف في ختام هذا الكتاب إلى أن «الطرقية» تعد أحد العناصر التي أسهمت في تكريس ظاهرة «الاستبداد المصري»، على اعتبار أن الطرق الصوفية ارتبطت في الغالب الأعم بالسلطان، ولاقت تشجيعه ومباركته لتثبيت شرعيته أو مواجهة حركات إسلامية أخرى.

كما يؤكد أن الإصلاح السياسي في مصر يتطلب ضرورة الالتفات إلى الإصلاح الديني، فطالما استمرت الجماعات والتنظيمات التي تربط الدين بالسلطة السياسية في الاستقواء بالدين والبحث فيه عن سلطة تشبه «الكهنوت»، فإن فرص إيجاد ثقافة سياسية ديمقراطية ستصبح غاية في الضعف.

إن صدور مثل هذا المصنف البديع، بما انطوى عليه من جهد وإحكام، يبرهن على قدرة الجسم البحثي والثقافي العربي على إنتاج أطروحات على درجة كبيرة من الإبداع والتماسك العلمي، أما فوزه بجائزة معتبرة مثل جائزة الشيخ زايد، فلا شك أنه يشحذ همم المئات من باحثينا الجادين والمبدعين.

* كاتب مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة