إن المتتبع لنتاج عالم الأدب والفن، يدرك تماماً أن أي مشروع ترك بصمة على مسار وتاريخ جنسه، وغدا علامة لافتة، إنما كان بالضرورة نتاج موهبة وعبقرية، وهو إلى جانب ذلك نتاج جهد مدروس ومستمر قد يمتد سنوات. وبالتالي فإن التجربة الإنسانية تنفي عن المشاريع الكبيرة صفة الارتجال، مثلما تنفي عنها نجاحاً يأتي من باب القدرية. وهذا القول ينطبق تماماً على الفيلم الأخير للمخرج «جميس كاميرون-James Cameron»، وأعني بذلك فيلم «أفاتار-Avatar».

Ad

كاميرون قدّم للعالم فيلم «تايتنك» عام 1997، وشكّل في حينه حدثاً فيناً عالمياً نفذ إلى قلوب البشر حيثما كانوا، وأعاد دفئاً إنسانياً مفتقداً الى قلوب تعشق الحياة، ولقد سجل «تايتنك» في حينه «الفيلم الأكثر إيراداً على الإطلاق في تاريخ هوليوود». ويبدو أن المخرج المسكون بهاجس المشاريع الكبيرة، وبعد قرابة اثني عشرة عاماً، أصرّ على تقديم فيلم جديد، لا يقل بأي شكل من الأشكال عن فيلمه السابق، ولكنه يتجاوزه بتقنيات سينمائية عصرية، تبعث على الدهشة، وترمي المشاهد العربي، في بحور من الألم والحسرة، وهو يتابع البون الشاسع لما وصل إليه الفن السابع في الغرب، وكيف أننا، في عالمنا العربي، ما زلنا نحبو على الأربع في تلمس طريق السينما العالمية.

فيلم «أفاتار» قد يكون المنعطف التاريخي الأهم الذي يبشر بشكل صريح بترسيخ سينما الأبعاد الثلاثة، ويقول صراحة، إن يوماً ليس بالبعيد، ستصبح سينما البعدين شيئا من مخلفات الماضي، مثلما صار يُنظر الآن إلى فيلم الأسود والأبيض، وان تقنية الأبعاد الثلاثة، ستكون حاضرة ليس فقط في السينما بل أيضاً سيتبع ذلك دخولها إلى بيوتنا وغرف نومنا من خلال التلفزيون.

«أفاتار» فيلم مدته 163 دقيقة، وهو إبهار بصري يصعب تجاوز أي لحظة فيه، وإذا كنتُ بطبعي أكره حتى المقت أفلام الحروب والدمار والعنف والقتل، فإن المخرج العبقري غلف كل مشاهد العنف بتشويق إنساني، يجعل من الصعب على المشاهد أن يغفل، ثانية، عن الحدث الدائر أمامه، خاصة وأن تقنية الأبعاد الثلاثة، وفي هدفها الأساسي، جعلت من المشاهد عنصراً مكملاً للحدث السينمائي، لأنه يعيش الأحداث في أقرب تمثلاتها لما يحدث في الواقع. كما أن الفيلم الذي استغرق الانتهاء من السيناريو النهائي له مدة سبع سنوات، استطاع بذكاء وتخطيط أن يقدم خلطة سينمائية قل نظيرها في حكاية الفيلم، خلطة جمعت بين: فيلم الخيال العلمي، وقصة حب مؤثرة، ومغامرات شيقة، إضافة إلى طرح لافت لقضايا إنسانية كالمحافظة على البيئة، واحترام ثقافة الشعوب الأخرى، وإدانة غزو واحتلال أرض الآخر، فقط لأنها تحوي خيرات وثروات ليست موجودة للقوة العظمى، وأخيراً سعى المخرج وطاقم السيناريو إلى بثّ لغة خاصة بأهل العالم الآخر، لغة ليست مجرد تركيب كلمات لا معنى لها، بل لغة حقيقية تستند إلى مفردات لغات مندثرة، وتسعى إلى إيصال رسالة ثقافية بضرورة المحافظة على اللغات المتناثرة في أرجاء من المعمورة، والتي شارفت على الاندثار باندثار شعوب تتكلم بها.

يصعب جداً الإحاطة بعالم فيلم كبير وعبقري في زاوية صغيرة، لكن لابد من الإشارة إلى أن مخرج الفيلم جيمس كاميرون ينتمي إلى المخرجين الكبار في تاريخ السينما، وهو قبل ذلك ينطوي على فهم إنساني كبير للواقع، وينحاز بشكل واضح لقضايا الإنسان، وهذا ما سيخلد اسمه على مر العصور.