من الطبيعي أن أرفض ظاهرة الاعتداءات على الأطباء وأستنكرها، ليس من باب كوني طبيباً يدافع عن زملاء مهنته- وعن نفسه طبعاً- فحسب، وإن كان هذا سببا كافياً دون شك، ولكن أيضا لأن فكرة الاعتداء على أي موظف عام أو خاص أو حتى أي شخص في أي زمان أو مكان هي فكرة أرفضها جملةً وتفصيلاً.

Ad

لكن تكرار ظاهرة الاعتداء على الموظفين العامين، التي أراها قد تجاوزت مرحلة تسميتها بكلمة «ظاهرة» فهي لم تكن خافية أصلاً منذ فترة قريبة حتى يقال إنها ظهرت الآن وصارت «ظاهرة»، بل الأمر قد تجاوز ومنذ فترة بعيدة فعل «الظهور» ووصل إلى مرحلة الاستفحال والانتشار والاستيطان، وصار من الجائز ربما أن نسميه اليوم «عادة» الاعتداء على الموظفين.

كنت سأقول إن تكرار هذا الأمر، ما عاد شيئا مستغرباً، فأسلوب «العنف» قد شاع في مجتمعنا، في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات. صحيح أن العنف لا يكون جسدياً في كل مرة، إلا أننا نشاهد انتشاراً واضحاً له بشكل عام.

هناك انتشار للعنف اللفظي في مقار العمل وفي الأماكن العامة، بل في برامج الفضائيات وفي مانشيتات وتحقيقات وتقارير الصحافة، ناهيك عن أعمدة وزوايا الكتّاب طبعاً، فقد أصبحت الصنعة الإعلامية قائمة على فكرة الشحن والشراسة والعنف، كأغلب برامج فضائياتنا المحلية، خصوصاً الرديئة منها، وكذلك ككثير من أعمدة وزوايا كتّاب صحافتنا المحلية ممن يحترفون استثارة وتأجيج العوام واستدراجهم عبر لمز هذا وهمز ذاك والتهكم والسخرية الشديدة والساقطة أحيانا من الشخصيات العامة، وكل ذلك بدعوى حرية الرأي والتعبير.

وكذلك صرنا نشاهد انتشارا لما يمكن تسميته العنف الفكري، حيث صارت عقول أغلب الناس تشحن بأفكار التصنيف والإقصاء والتخوين، عند أي خلاف أو حتى اختلاف مع الآخر.

وهذا العنف كله سواء، وإن كان يظهر بهيئات مختلفة، فهو في الحقيقة درجات تصاعدية مرتبطة ببعضها بعضاً. صحيح أنه لا يصل آخرها دائماً كل من ابتدأ بأولها، ولكن ذلك ليس لأنه من النوع الذي لا يصفي خلافاته بقبضة يده لكونه أرقى من ذلك، إنما غالبا لأن ظروف الموقف ما كانت لتسمح بانخراطه في التناطح الجسدي.

تزايد العنف، بدرجاته المختلفة، راجع، من جملة ما يرجع إليه، بل على رأسها في تصوري، إلى حالة القلق والإحباط العاصفة بالمجتمع، وهي الحالة التي تطورت إلى حالة من الشعور بانعدام الأمان وخوف الناس من أن يأكل بعضهم حقوق بعض، وأن يتم تجاوزهم أو إقصاؤهم، مما جعلهم ينزعون ويندفعون وبكل سهولة إلى استخدام أسلوب فرد العضلات والتلويح بالقبضات والصراخ والشتائم والوعيد عند أي شعور بالتهديد.

ومعروف أن هذا كله ما هو إلا سلوك بشري طبيعي، فالعنف ووحشية الغاب يكثران في أواسط الشعوب الهمجية، ويقلان ويتقلصان في الدول المدنية المتقدمة التي يسود فيها القانون ويصبح الناس سواسية أمامه.

الكويت اليوم، وبكل بساطة، تعاني هدر قيمة الدولة وضياع هيبة القانون، وانتشار الشك في نزاهة الحكومة بل السلطات جميعاً، مما جعل الناس تسحبه لا شعوريا على كل موظفي الدولة، فالكل أضحى متهماً بالمحسوبية والتبعية وعدم النزاهة والتجاوز لمصلحة المقربين منه والبحث عن مصالحه الشخصية، لذلك صار الناس يتعاملون بعنف و»وحشية» فيما بينهم في محاولة لانتزاع ما يرون أنها حقوق لهم، وأصبحت الجماعات السياسية والعرقية تحرص على أن تستعرض عضلاتها لتخويف البقية ومنعها من التعدي أو الاقتراب، تماماً كما تفعل ذوات الأنياب والمخالب في الغابات!

النائب الذي اعتدى على طبيب أو على موظف عام، وزميله الذي صفع مواطناً في الشارع، والآخر الذي تهجم على زميلة تحت قبة البرلمان، وغيرهم، ليسوا سوى نتاج لاختيارات شعبية صوتت لهم. وذاك الإعلامي الذي يمارس العنف اللفظي والإسفاف ضد خصومه، له عشرات المؤيدين والمعجبين، وتلك الجماعة التي تمارس العنف الفكري ضد الآخرين، لها المئات من الأتباع والمؤيدين.

لذلك فمن المهم أن ندرك أنها وحشية وهمجية آخذة في الانتشار في ظل تهتك أساسات الدولة المدنية وانتشار الفساد وعدم إحكام قبضة القانون وعدم الجدية في تطبيقه، وذلك حتى يتسنى العلاج لمن يرغب في العلاج!