حين أخبرته «معلولة» بأنها حامل، قفز «سالم» قفزة عالية تخطى بها جميع ألوان ردود الفعل المتوقعة، وهبط مركِّزاً همته كلها في رد فعل كأنه أنفق عمره على تربيته: سنسميه «صابر».

Ad

خبّأت المرأة اعتراضها وراء ضحكة غير ناضجة: لماذا صابر؟ لا هو اسم أبيك ولا هو اسم أبي!

تسلل صوته من فجاج شاربه الكث الجائر على شفتيه: يعجبني... أحب أن يقال لي «أبو صابر».

وإذ لم يكن أفق «سالم» أبعد من أنفه، فإنه لم يتوصل إلى القول إنه اختار الاسم تيمناً بحالة جميع المواطنين، وإذ لم تكن «معلولة» على علم بأن بعض الناس يطلق على الحمار هذه الكنية، فإنها لم تواصل الاعتراض. لكنها تساءلت: ومن أدراك أنه ولد؟

قطب حاجبيه وهتف مستنكراً: ماذا تريدين أن تقولي؟

ردت: أقول لنفرض أنها بنت.

استدار عنها مجدفاً بيديه من ورائه وكأنه يكنس الغبار: فال الله ولا فالك.

ومضت الأشهر التسعة تركض، ولعلها في تسارعها كانت تستعجل صفع «سالم» بفال الله الذي توافق تماماً مع فال «معلولة».

وبعد الولادة ظلت «معلولة» النفساء خائفة، فيما ظل «سالم» الكظيم مشغولاً بمداراة وجهه المسود، لذلك فقد مضت ثلاثة أسابيع من دون أن يكلف أحدهما نفسه عناء اختيار اسم لتلك الصرخة الملفوفة.

وعندما سألتهما القابلة في الأسبوع الرابع عما إذا كانا قد توصلا إلى تسمية «القمر» بادر سالم تحت طائلة الحرج إلى مشاورة زوجته، ولم يطل الأمر بينهما حتى تنهد بتسليم من لا حيلة له: «مقبولة».

ولم يخف على القابلة أن وراء اسم «مقبولة» كلاماً محذوفاً من قبيل «...هذه المرة»، لكنها ابتسمت لهما قائلة: تتربى بعزكم.

وحين اقترب مخاض معلولة للمرة الثانية، احتوت يد الأقدار وجه سالم المترقب بصفعة رائعة صبغت سواد وجهه الكظيم بالأحمر.

وفي المعاهدة اليائسة التي وقعاها هذه المرة، بعد أسبوع من ميلاد الطفلة الجديدة، سمياها «مَرضيّة»، وكأنهما يشترطان، ضمناً، أن تأتي الجثة المقبلة على مقاس جلباب «صابر».

ولم يأت صابر. فقد أصرت السماء، مكافأة لهما على قبولهما ورضاهما، أن تمنحهما قمراً جديداً في المرة الثالثة، وهي المرة التي استحت فيها القابلة من أن تسأل، لكن «سالم» الذي تورم وجهه من كثرة الصفعات، هو الذي تطوع بقراءة القرار من دون مشاورة زوجته، إذ أجهش شاربه الكث في وجه القابلة قائلاً: «كفاية»... اسمها «كفاية».

وكان واضحاً جداً أنه بذلك لم يعد يؤمن بالمعاهدات، وأن اللفظة التي أطلقها على ابنته لم تكن تسمية بقدر ما كانت اعتراضاً وإغلاقا للباب.

وزمجرت عاصفة المخاض الرابع فلم تبقِ باباً ولا شباكاً، ولاكت اعتراض سالم، ثم بصقته في وجهه قمراً رابعاً.

قال هذه المرة بسرعة: «منتهى»... البنت اسمها «منتهى».

وإذ كان سالم يطمئن آماله التي باخت، بإحكام ربط كيس البنات بخيط هذا الإسم الذي بدا قراراً مبرماً أكثر منه اسماً، كانت خيبته تقهقه وراء الحجاب بعذوبة موجعة، وكأنها تقول «أنت الذي يقرر؟ من تحسب نفسك أيها العضروط؟».

وامتلأت فراغات يأس العضروط، على توالي الأعوام، بأقمار جديدة، واجهها في البداية بمواصلة العناد... «ختام»، ثم عبر الى تصنع اللامبالاة... «صدفة»، ثم تقهقر إلى ضفة التسليم الذليل... «قسمة».

وإذ قرر في النهاية أن يحقق تسوية ما، بإضافة تاء مربوطة لصابر الذي سيأتي أنثى، سحبت القابلة بساط رحلته الثامنة من تحته، فقلبته على قفاه قائلة: البشارة... ولد!

في الحقيقة، لم يكن الشيء الذي بشرت به القابلة مما يمكن تسميته ولداً إلا بالمجاز، كما لم يكن في منظره، بأفضل حالات التعاطف والتعزية، ما يدعو إلى وصفه بالبشري... كان مجرد شريحة لحم بائسة تبدو لتقشفها ودمامتها كأعطية شحاذ.

وعلى رغم مواصفات الفضلة البالية التي تركتها البنات خلفهن، لم ينفلت حجر واحد من جبال فرحة «سالم» الراسخة.

شيء واحد أقلقه وأقلق الوالدة المرزوءة بفرحتها... هو أن هذا المخلوق المشرف على الذهاب قبل مجيئه لن يحتمل مطلقاً ترف اسم «صابر»، إذ بدا أنه يحتاج إلى تعويذة غير عادية تحنن قلب الموت عليه.

وهكذا، وعلى نقيض المتوقع، تخلى سالم عامداً عن الإسم الذي واظب طول حياته على صيانته وتلميعه ارتقاباً للساعة الموعودة.

قال لزوجته بصوت ذابل: نسميه «محروس».

وكان الإسم، بالفعل، تعويذة رائعة، لقد عاش الولد.

وعندما أقمت مع «محروس» مضطراً، بعد أعوام طويلة، كان العم «سالم» قد شبع موتاً، وبقيت «معلولة» من بعده معلولة بين أمراضها المتراكمة وشوقها إلى محروس الذي لا تعرف له مكاناً، ولا تعرف موعداً لعودته.

قال لي مرة: ألا ترى أن أبي كان ملهماً؟ لقد انطبقت أسماء أخواتي عليهن حرفياً، وكفلت لهن كل خير، القبول والرضا والكفاية في العيش ومنتهى النجاح وحسن الختام مع أزواج قضت القسمة الجميلة أن يكونوا أكفاء طيبين.

قلت له وأنا أتأوه من أثر ضربات تلقيتها قبل ساعات: العب بالألفاظ كما تشاء... أما أنا فلست أرى الأمر إلا صدفة، وللمناسبة... لماذا نسيت «صدفة»؟ ألا ترى أن صدفتها كانت سيئة إذ تزوجتني أنا المقيم ها هنا معك؟ وأنت... بماذا نفعك إلهام العم رحمه الله؟ فلو أنه تشبث باسم «صابر» حتى النهاية لأفلح في جعلك مواطناً صالحاً، أو حتى جحشاً... وماذا في ذلك؟ كنت، في الأقل، ستبقى جحشاً في بيت أمك. لكن أنظر إلى نفسك الآن... ها أنت «محروس» هنا... فماذا أفادك أن تكون محروساً بهؤلاء القساة الغلاظ في «بيت الخالة»؟!