ولع لا يلين
في آخر لقاء لي، قبل سنوات، مع المفكر ودكتور الفلسفة جورج طرابيشي في باريس، صاحب كتاب «نقد نقد العقل العربي»، و»إشكاليات العقل العربي»، ووسط صمته بهواجسه، نبس يقول لي: «ما عاد وقتي يتسعني، أقرأ في كل مكان، وأستعجل وصول القطار إلى المحطة القادمة».
كنت أنظر إليه مقدراً جديته وجهوده الحثيثة في بحوثه وقراءاته ودراساته الفكرية والأدبية والفلسفية، وأخيراً في كتاباته التي تقدم وعياً متجدداً في الحياة الفكرية والثقافية العربية. ويكمل جملته، قال جورج وقد مسَّت حسرة حارة نبرة صوته:«العمر قصير، وأحلام الروح أكبر من طاقة الجسد».نعم، للروح جذوة لا تفتر عن الاشتعال، ولا تتوانى عن خلق أمانيها مع ميلاد كل صباح جديد، بغية الإبحار إلى موانئ تومئ لها بسحر البعاد. لكن، قد يتهالك الجسد، يصاب بعطب طارئ أو عارض، فلا يقوى على شقة السفر، ولا يستطيع تحمل مزيد من أعباء الرحلة، رحلة الحياة. ولحظتها يترك الروح لآلامها ووساوسها بانكساراتها المؤلمة.كم يبدو مفارقاً أن ينظر كلاهما إلى الآخر، الروح والجسد، في لحظة منعطف، وتستشعر الروح الأسى، وقد لاحها من يشبه حزناً: «كبرت». فجأة تصعد الكلمة، فجأة ينظر أحدنا إلى المرآة، ليرى فعل الزمن في جسده وأعضائه. يتملّى وجهه، فتبرز إليه نظرة يعرفها تماماً، نظرة روحه التي تصرّ على ألا تشيخ، وتصرّ على ألا تستسلم، وتصرّ أيضاً على الركض يومياً في ميدان الحياة، تسابق قدرها، لتصل إلى قمة طموح لا تُطال، ولسان حالها يردد:«لن أقف قبل نهاية المشوار».أي مشوار ذاك الذي نسابق به أرواحنا؟ وأي وصول ذاك الذي نبقى؟ وهل لأماني الروح، التي تأبى الاعتراف بفعل الزمن، أن تهدأ قليلاً؟أطفالاً نتوكأ ما يحيط بنا لاكتشاف نبض العالم، لكن ما إن يترعرع الطفل، وما إن يأخذ الجسد سمته، حتى تطل روح وقادة كانت تنتظر الفرصة لتعلن تفجر ميلادها، تعلن مشاريعها وآمالها العراض في حياة مليئة بالصخب والحب والنشوة والسعادة والنجاح. وكم يبدو الأمر مؤلماً حين يعجز الجسد عن تلبية أحلام الروح، أو حين تصاب الروح بالعطب، فلا تقوى على النهوض برغبات الجسد.المحظوظون هم أولئك المتآلفون مع لحظاتهم، لا يشكون ضيقاً في أوقاتهم، ولا هم يستشعرون ضرورة ركض لا يتوقف عند نهاية. لكن قدر العلماء والمبدعين والباحثين أن يروا في اللحظة القادمة ولعاً جديداً بالحياة وعوالمها، ورهاناً على أمل لا يلين. وهم بهذا الولع والرهان يمنحون البشرية عصارة أفكارهم التي تبقى حتى بعد رحيلهم.