في 18 سبتمبر 1998 احتفت جامعة هارفارد الأميركية بمنح نلسون مانديلا، رئيس جنوب إفريقيا آنذاك، الدكتوراه الفخرية. وقد كان من محاسن المصادفات أنني حضرت هذه المناسبة التاريخية، فقد كنت حينئذٍ أستاذاً زائراً في تلك الجامعة. كان الجو حاراً جداً، بالطبع ليس كحرارة شمسنا، ولكنها مسألة نسبية، وقد قدرت جريدة "البوسطن جلوب" أن الحضور قد فاق الـ25 ألف شخص. استثنت الجامعة العريقة احتفال مانديلا من الترتيبات العادية، التي عادة ما تتم بعقدها في القاعة المغلقة، فأقامت الاحتفال في وقت مختلف عن المعتاد، وعقدته في الهواء الطلق. لم يُستَثنَ من قواعد ذلك الاحتفال في الماضي إلا رجلان، هما: ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وجورج واشنطن، مؤسس الجمهورية. علاقة جامعة هارفارد لم تكن طيبةً بنلسون مانديلا في السابق، بل إنها كانت داعمة لنظام جنوب إفريقيا العنصري، حيث بلغت استثماراتها فيها حينئذٍ ما يزيد على 400 مليون دولار. قيل في اللقاء إن جامعة هارفارد على عراقتها لم تكن هي التي كرمت مانديلا، بل على العكس، فقد كرمها مانديلا بقبوله ذلك التكريم وعفا عنها وتسامح، وتسامى فوق الجراح. وكانت هارفارد قد بذلت جهوداً مضنية لإقناع مانديلا بقبول التكريم، وكأنه كان رسالة للصفح عن الماضي.

Ad

قضى مانديلا قرابة 27 عاماً في سجنه كزعيم للمؤتمر الوطني الإفريقي، وأغلب تلك المدة كان في سجن جزيرة روبن التي تحولت إلى متحف، وعندما خرج من السجن، كان حريصاً على لقاء السجان الأبيض الذي قضى معه السنون الطوال، وإن من موقعين مختلفين، وعانقه أمام الكاميرات ليقول، انتهى عهد وجاء عهد، فليجمعنا التسامح، فالكراهية لا تبني وطناً. عندما خرج من السجن سنة 1991 قال كلمته أمام مناصريه: "لا أقف أمامكم هنا كنبيّ، ولكن كخادم لكم..." كان يعلم جيداً حجم الكراهية الذي خلفه النظام العنصري، ولذا ابتدع هو ومعاونوه مبادرة لجان الحقيقة والمصالحة، التي منع فيها إقامة دعاوى بسبب الاعتداءات والانتهاكات العنصرية للنظام السابق مدة خمس سنوات، وكان يمنح فيها أحكاماً مخففة أو عفواً لكل من يتقدم إلى تلك اللجان ويعترف بجرائمه العنصرية، وقد حققت تلك التجربة نتائج باهرة في نقل المجتمع إلى حالة أكثر اتزاناً، أعفته من الانتقال إلى مرحلة الانتقام.

في مذكراته الرسمية "طريق طويل للحرية" يؤكد أنه لم يشعر بالوهن أو الألم خلال سجنه الطويل، بل عانى الأمرين نفسياً، عندما خرج من السجن، وبدأ مفاوضات مع الرئيس الابيض دي كليرك، إذ بدأ بعض رفاق دربه يشيعون أنه قد خان القضية في تفاوضه مع النظام العنصري. فيقول: "لم يؤلمني السجن والتعذيب والألم بقدر ما آلمني أصدقائي ورفاقي بسوء ظنهم". وتعرض لأزمات شخصية عديدة، كان أبرزها الإشكاليات التي سببتها له زوجته السابقة ويني. ومع علمه بما للولايات المتحدة من نفوذ، ولما لجماعات الضغط الصهيونية، فإنه ظل ملتزماً بدعمه للحق الفلسطيني، فحين زيارته لنيويورك وللأمم المتحدة بعد خروجه من السجن وحتى قبل أن يصبح رئيساً أصر على موقفه الداعم للقضية الفلسطينية. ربما كان ذلك سبباً لاستمرار الكونغرس الأميركي في وصفه بالإرهابي وذلك حتى العام الماضي.

بشخصيات متسامحة مثل نلسون مانديلا استطاعت جنوب إفريقيا الخروج من مأزق كونها أبشع نظام عنصري في التاريخ الحديث، ليصبح نظاماً مرتكزاً على المساواة بين الأعراق، ومع أن الطريق طويل، فإنّ الإنجاز الأكثر أثراً هو قدرة نلسون مانديلا على التسامح، والعفو عن أولئك الذين آذوه بشكل مباشر وغير مباشر وبالتالي الخروج من مأزق الماضي، إلى رحابة المستقبل.

ها هو أحد أبرز رموز التسامح في التاريخ يحتفل بعيد ميلاده الـ91، ليبقى رمزاً نادراً بين رموز السياسة الذين يتفاخرون بإنجازهم للتدمير والتخريب وبث الكراهية والبطش والقتل.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء