منذ الستينيات حتى تحرير البلاد من الغزو العراقي، كان الخطاب السياسي والإعلامي والأدبي والثقافي خطاباً راقياً لا تخرج مفرداته أو جُمَلُه أو فقراته عن قِيم عامة تسود المجتمع، أهمها تلك القيمة التي ترفض تسفيه الآخرين والمساس بشخوصهم مَهْمَا اتسعت دائرة الاختلاف في الرأي... فلم نسمع في مجالس الأمة منذ أول مجلس حتى ما قبل الغزو، مفرداتٍ وأوصافاً كتلك التي أصبحنا نسمعها -دون غرابة!- ولم نشهد تجريحاً بالأشخاص لا بمسؤولياتهم كالذي نشهده هذه الأيام، ولم يسلَمْ أحد من هذا المساس، حتى أنه شمل الموتى، رحمهم الله، لا الأحياء فقط.

Ad

فما الأسباب الحقيقية لهذا التردي في الخطاب العام بكل جوانبه (السياسي - الإعلامي - الثقافي - الفني - الرياضي وحتى الاقتصادي)؟ هل هو انعكاس لحالة جديدة أفرزتها مرحلة الغزو وما تلاها، أم أنه نتيجة مباشرة للانفتاح الإعلامي المفاجئ (من خمس صحف إلى 14 صحيفة... ومن قناتَين حكوميتَين إلى عشرات القنوات؟)، وهل له علاقة باتساع دوائر الحرية في التعبير والنقد والخطاب؟ وهل لضمور الأداء الأدبي والفني وتراجعه سبب في هيمنة الشأن السياسي على الوضع العام في البلاد ومن ثم انعكاس مفرداته وخطابه على باقي القطاعات؟... أسئلة كثيرة قد لا تكون على سُلَّم أولويات الكثيرين منّا، لكنها جديرة بالوقوف عندها ومراجعتها، لأن الخطاب العام لن يقف عند هذه الرداءة التي نشهدها، وهو مستمر في الانحدار، ويوماً بعد يوم يزداد رداءة، ما يؤسس لحالة اليأس العام ويكرس حالة فقدان الأمل بالمستقبل، ومتى ما تجذّر هذا الشعور فلا تنمية تسير ولا مشاريع ترى النور... دعونا نُعِد النظر في خطابنا العام، وقبل ذلك دعونا نفهمْ لماذا تردّت الأحوال إلى هذا الحد... لعل هذا مدخلنا الصحيح إلى التطوير والتطوّر.