مشروع «الوحدة القومية» في شبه الجزيرة الكورية بين شطرها الجنوبي (الرأسمالي) وشطرها الشمالي (الشيوعي) ظل مشروعاً مؤجلاً بعد تحقيق «الوحدة القومية» بين شطري ألمانيا إثر انهيار «جدار برلين» ومعه الاتحاد السوفياتي (السابق)، وموافقة روسيا الاتحادية- الجار الأهم- على إعادة توحيد ألمانيا.

Ad

وجميع التوقعات الرائجة بشأن «التصعيد» الحاصل بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية تميل إلى توقع حدوث «تباعد» بين «البلدين»... غير أن الحقيقة أن كوريا بلد واحد وشعب واحد يميل إلى توحيد بلاده، ويحن إلى ذلك. و»حرب الوحدة القومية» لها سوابق تاريخية كثيرة، أدت نتائجها إلى توحيد الشطرين المتحاربين أو الأجزاء المتواجهة كما حدث في حروب الوحدة القومية لتوحيد إيطاليا وألمانيا وقد شهد جيلنا في الوطن العربي «حرب الوحدة» بين شطري اليمن، وهي «وحدة» ينبغي ألا تكون رجعة عنها، وأن يتحمّل مسؤولية الحفاظ عليها الجميع.

وإذا وقعت الحرب بين الكوريتين، وإن كنا نتوقع ألا تقع لسبب رئيس سنذكره بعد قليل، أما إذا أفلتت الأمور ووقعت فإن النتيجة، حسب توقعنا، هي قيام الوحدة الكورية، والدولة الكورية الواحدة. ولا يستبعد في حالة حدوث الحرب انضمام قطاعات عسكرية واسعة من الجيشين إلى الجيش الآخر للتسريع بعملية الوحدة.

تنقسم شبه جزيرة كوريا، كما هو معروف، إلى قسمين: جنوبي وشمالي: والجزء الشمالي (أي كوريا الشيوعية) أكبر مساحةً من الجنوب، وإن يكن أقل سكاناً إلى النصف تقريباً، ففي الجنوب يعيش ثلثا الكوريين، وكوريا الجنوبية أقوى تنميةً وتقدماً من الشمال الذي يعاني مشكلات عدة أبرزها خطر المجاعة، وقد كنا نشاهد في الصحف العربية صور الزعيم الكوري الشمالي «المحبوب» كيم إيل سونغ بصفة منتظمة وروتينية، وخلفه الآن ابنه والأنباء تشير إلى احتمال تولي «الحفيد» القيادة مستقبلاً!

وفي كوريا الجنوبية التي حكمها لسنوات عدة «سيغمان ري» ثم قادة عسكريون انقلابيون تمت «التنمية» اللافتة بلا ديمقراطية، والتي لم تتحول إليها كوريا الجنوبية إلا أخيراً، مما يطرح إشكالاً نظرياً، وهو أن الديمقراطية ليست ضرورية لتحقيق التنمية بخلاف تجارب كثيرة في العالم.

وعندما مررت، قبل حوالي عشرين سنة، بكوريا الجنوبية- في طريقي إلى جارتها اليابان بدعوة كريمة من مؤسسة اليابان (Japan Foundation)- اندهشت لأمرين:

الأمر الأول، وقد لاحظته والطائرة تهبط بي ليلاً في مطار سيول، كثرة الكنائس المسيحية (المضاءة بالصلبـان) في بلد يتوقع المرء سيادة الديانة البوذية فيه. ويبدو أن المبشرين المسيحيين الغربيين انتهزوا مسالمة البوذية وتسامحها لنشر دينهم في هذا البلد الآسيوي المتقدم.

أما الأمر الثاني، وقد لاحظته في اليوم التالي لنزولي في سيول، شدة العداء لليابان التي احتلت كوريا لسنوات قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية عام 1945، وضربها- من قبل أميركا- بأول قنبلة نووية في التاريخ.

إن النفور الكوري في المتاحـف والقصور وكل رموز التاريخ والماضي مما هو ياباني حقيقة قائمة، ولا أدري إن تغير ذلك كله اليوم، فكوريا الجنوبية، بحكم نظامها، في حلف وثيق مع اليابان ضد توأمها الشمالي (الشيوعي)!

عندما بدأت «الحرب الباردة» بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وقعت أولى حروبها في شبه الجزيرة الكورية بين 1950- 1953 وانقسمت كوريا إلى شطر جنوبي، تحت الهيمنة الغربية، وشطر شمالي، تحت الهيمنة الشيوعية.

وإلى يومنا هذا يلاحظ الراصد أن كوريا الشـمالية تملك أسلحة أكثر- عدداً- من جارتها الجنوبية، ولكن السؤال يظل حول مدى «فاعلية» تلك الأسلحة إذا وقعت الحرب، كما أن قوة عسكرية أميركية برية وجوية مازالت ترابط في كوريا الجنوبية، وقد يكون لها دور حاسم في الحرب المتوقعة... إذا وقعت!

وقد جرت عدة محاولات «سلمية» لتوحيد الكوريتين أيام الحرب الباردة بإشراف الأمم المتحدة، وموافقة الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي (السابق)، لكن لم يكتب لها النجاح... ومازالت الولايات المتحدة الأميركية هي «الوكيل» الدولي لكوريا الجنوبية أما الاتحاد السوفياتي (السابق) فقد حلت محله الصين المجاورة للكوريتين، وهي «المتعهد» الدولي لكوريا الشمالية... (ويلاحظ أنها لم تسلم، بعد، بصحة الرواية الكورية الجنوبية بشأن إغراق الغواصة، ولم تقدم على «إدانة» تصّرف حليفتها الشيوعية).

وهذا هو السبب الرئيس لعدم توقع حدوث «الحرب»، فواشنطن وبكين متفقتان على «التهدئة» وقد جرت بينهما- في أثناء زيارة وزيرة الخارجية الأميركية إلى بكين- محادثات و»تفاهمات» بهذا الاتجاه بعضها عسكري، ونعتقد أن طوكيو من جانب آخر لا تميل إلى وقوع حرب بمحاذاة حدودها البحرية، وإن يكن إغراق الغواصة الكورية الجنوبية وقتل عشرات من بحارتها، مسألة شائكة ومثيرة، وعلينا أن ننتظر لنرى كيف سيعالجها المجتمع الدولي الذي لم يعد «نظامه» يميل إلى العنف في أي مكان من العالم، لكن التهديد بالقوة مازال سائداً، والمناورات المشتركة المتوقعة بين واشنطن وسيول، في وجه تهديدات كوريا الشمالية، تدخل في هذا الباب.

ويبقى أن وقوع الحرب، وربما «تصعيد» المواجهة الجارية حالياً بين الشطرين، قد يؤدي إلى توحيدهما إذا توافقت بكين مع واشنطن بهذا الشأن، لأن «المعطيات» المحلية الأخرى، بين الشطرين، خصوصاً موافقة المواطنين في الشطرين على وحدتهم القومية، تدعم هذا التوجّه.

والحرب في الشرق الأقصى، إن وقعت وخاضتها أميركا، فإنها ستزيد من أعبائها العسكرية، فهي تحارب بضراوة في أفغانستان ومازالت معسكرة في العراق ومسؤولة دولياً عن حماية أمن الخليج (وقد سبق للعسكرية الأميركية التدرب على خوض أكثر من حرب في العالم). كما أن الملف النووي الكوري الشمالي سيصبح مسألة شائلة كالملف النووي الإيراني الذي رأينا تصعيداً بشأنه... وإذا ما لجأت قيادة كوريا الشمالية في لحظة الحشرة إلى السلاح النووي، فإن ذلك سيكون كارثة لن تقف حدودها في شبه الجزيرة الكورية، ولا يستبعد لجوء الطرف الآخر الذي لا يتحدث عن سلاحه النووي إلى هذا السلاح! كما أن الصين التي عينها على تايوان لن تقف مكتوفة الأيدي.

وأياً كان الأمر، فإن خيار «الوحدة القومية» بين الكوريتين هو الخيار المنطقي في كوريا أو غيرها، حيث تحن الأمم المجزأة إلى وحدتها، بالطريقة المناسبة... وكما يقول المثل الشعبي في الخليج «اللي في الجدر (القِدْر) بيطلعه الملاّس!».

* مفكر من البحرين