يأسرني في العمل الإبداعي ما يتخفّى وراء ظاهره من دلالات، ولعل البعد الماورائي، أو الميتافيزيقي هو أكثر هذه الدلالات عمقاً، وسحراً بالضرورة.

Ad

في المعرض الفني الجديد، الذي يقدمه المتحف البريطاني، كلُّ عناصر هذا الأسر: «الحديقة والكون». قرابة ستين عملاً فنياً مجهولاً من الرسم الهندي، تعود إلى قصور آخر أمراء المغول، في الشمال الغربي من شبه القارة الهندية. والرائع في هذه اللوحات، التي تصور ثلاثة ملوك من سلالة واحدة، أنها لا تكتفي بدور التزيين الجمالي البارع، بل تتجاوزه إلى مدى من تأمل المسرات الأرضية، وأسرار الكون والخليقة. الأمر الذي يبدو لي كامناً في جوهر حضارة هذه الأمة، فهو واضح في الموسيقى، والرقص، والنحت، والشعر. وهاهو يتضح في الرسم.

اللوحات مُنتجة بين عامي 1725 و1843، لقصور ثلاثة ملوك، يمثلون ثلاث مراحل بالغة التباين. المهراجا الأول باكهات 1725-1751، يعكس حياة المسرات الأرضية، فهو منغمس في الشهوات، ومشاهده في اللوحات لا تتجاوز أحواض السباحة، وحلقات الجاريات المحيطة به، وفرق عازفي الموسيقى، مع أن تاريخه الشخصي يعكس شخصية محاربة، بالغة القسوة. فقد ورث العرش بعد أن قتل أباه.

الجزء الثاني من المعرض مكرس للمهراجا مان سِنغ 1803-1843، الجد الأعلى لباكهات، وكان متعارضاً تماماً مع الأول، فقد توجه إلى السماء بدل الأرض، إلى الزهد بدل المسرات الحسية، وإلى اليوغا التأملية التي وفّرت مُعتقداً من رحم الهندوسية أُطلق عليه اسم «ناث». ميله إلى الفن جعله يكلف رساميه بوضع ألف لوحة تنصرف إلى المفاهيم الميتافيزيقية. مواضيعها أدارت ظهرها لمسرات البلاط الخارجية، وتوجهت إلى عالم التأمل الفلسفي الداخلي، وإلى بدء الكون. وهذا التوجه في الموضوع يقتضي، بالضرورة، توجهاً فنياً جديداً، فالفنانون الآن مدعوون إلى رصد المجاهيل العميقة الكامنة في قلب تعاليم «ناث»، لرصد ووصف «المطلق» المجرد. ولعل هذا التوجه قدّم نماذج من الرؤى مدهشة، تشبه في تجريدها مدارس التجريد الحديثة، والتي بدأت مع لوحة المربع الأسود للروسي ماليفتش.

ولعل القسم الثالث تطويرٌ للثاني، لأن وريث العرش طور التوجه الديني إلى أرفع مستوياته الروحية، حيث تتجسّد الآلهة الهندوسية، ويكون لها حضور البشر.

في لوحة « ثلاثة مظاهر للمطلق»، نرى سلسلة من مربعات ثلاثة مؤطرة، من اليسار إلى اليمين. ما من شيء في الأول، غير حقل من لون ذهبي ذي وميض، مساحة من تجريد خالص يصور الأبدية، ووحدة غير محددة الشكل لتجلي الكون. في الثاني نبصر الفراغ وقد ارتبك، بحضور الكائن الأمثل في المعتقد الهندوسي محاطاً بهالة مضيئة، طافياً في الامتداد الذهبي النيّر. وفي الثالثة، نراه وهو ينضح ضوءاً فضياً يقسم الصورة نصفين، تماماً كما ينفصل الكون المادي عن الكون المعنوي كوعي.

تأمل اللوحات، التي رسمت على الورق في مختلف حجومها، يثير حاسةً لونيةً غير مألوفة في خبرة مشاهدة اللوحة الغربية، هنا تتداخل البساطة والألوان الحادة التي تُبرز التزيين والتصاميم الجريئة لأساليب الفن المحلية، مع الألوان الأكثر تعقيداً، ورسم الشخوص، والاهتمام بزوايا المنظور المتعددة.

البعد الميتافيزيقي للفن، ولكل الفنون، والشعر ضمناً، لا ينحصر في التحديق في الأعالي، بل يتكاثف حتى في التحديق الأرضي. فتأمل المسرات الأرضية، ونزعات الكائن الحسية لا يبتعد كثيراً عن زاوية النظر الفلسفية. لكن الفلسفةَ التي تتشرب بالفن ليست هي الفلسفة المجردة ذاتها، كما أن التأمل الديني في هذه الفنون ليس هو العقيدة الدينية ذاتها. والمحير أن فن هذا المعرض جاء من حضارة انتفعت عميقاً من فنيْ الفرس والمغول الإسلاميين اللذين سبقاه، لكن الهندوسية تسلّمتهما ووحّدتهما مع موروثها القديم.

الأمر حدث بطلاقة مع الإسلام في الشرق البعيد، لكنه لم يحدث مع الإسلام العربي في الشرق الأوسط. ولعل الأمر يتضح في الشعر والموسيقى أكثر من اتضاحه في الفن البصري، فما العلة وراء ذلك؟