لنتأمل الآن المشهد الشعري والبصري «في الغرب»، ولو على نحو مختصر منذ بداية الخمسينيات والستينيات، وصولاً إلى الآن، إن هذه المرحلة التي غالباً ما يُطلق عليها اسم ما بعد الحداثة، تكاد تجسد نوعاً من الالتباس يكاد يفوق الحدود بين العناصر التعبيرية، بل وحتى الإلغاء أحياناً. هذه الطليعية الجديدة بفعل طغيان الفردانية وغياب الإيديولوجيات والتيارات السائدة على صعيد المجتمعات الغربية، أدخل حقل التعبير الشعري إلى منطقة أخرى مازجاً إياه بكل أنواع الفنون البصرية وغير البصرية، وبالتالي رُدمت الفجوة بين حقل تعبيري وآخر.

Ad

فالشعر الذي عاد يتجه إلى الشفاهية باستخدام كل عناصر التكنولوجيا الحديثة والمالتيميديا، فأصبحت مفاهيم مثل الـperformance, happening وفن التجهيز: «installation» والبوب-آرت والفيديو-آرت، في صميم الأداء الشعري.

إن هذه التحولات المركبة أصبحت الآن تعزّز أكثر فأكثر مفهوم التواصل والتقارب بين أفراد الجماعات.

عندما كنت في نيويورك حضرت شخصياً بعض هذه التظاهرات الشعرية الفنية، ففي أمسية شعرية للشاعر الأميركي غريغوري كورسكو وهو يقرأ قصائده، كان يحاكي الجمهور بحركات تمثيلية كأنما يرسم بيديه إشارات في الهواء.

هذا الأمر نفسه ينطبق على آلن غينسبرغ أو أميرباراكا وآخرين، وهم يقرأون نصوصهم على الإيقاعات الهادرة لموسيقى الجاز، بل إن هناك من ذهب ليطوّر مفهوم القصيدة-اللوحة مثل الإيطالي ناني بالستريني، أو الشعر البصري والتخطيطي عند الشاعر اليوناني ديموستينس غرافيوتيس.

وكل هذه التجارب تستند إلى آخر المبتكرات التكنولوجية، من أجل فك العزلة عن الشاعر، لكن ماذا عن التجربة العربية المعاصرة؟ إن نظرة سريعة إلى الأربعينيات والخمسينيات وصولاً إلى الستينيات، تبدو لي تجربة «الخبز والحرية» في مصر: جورج حنين، رمسيس يونان، فؤاد كامل، كامل التلمساني، إنجي أفلاطون، أوضح التجارب في جعل اللقاء الشعري والتشكيلي ممكناً سواء كان عبر المعارض الفنية أو التظاهرات الشعرية أو المجلات والكراريس التي صدرت حينها، وكانت هذه التجربة سباقة بفعل ارتباطها بالحركة السوريالية العالمية بشكل عام، والفرنسية بشكل خاص واستمرت حتى قيام الثورة المصرية عام 1952.

ومع ظهور حركة الشباب واليسار الجديد في أوروبا في الستينيات من القرن المنصرم، أخذت التجربة الشعرية والفنية في العراق بالنهوض مع وجود فسحة من الحرية النسبيّة «1968-1961»، فظهر جيل مختلف من الشعراء والكتّاب والفنانين التشكيليين وحتى السينمائيين، هم من أُطلق عليهم جيل الستينيات عبر نشاطات مستمرة سواء أكانت في القراءات أو المعارض التشكيلية أو التجمعات والمنابر من صحف ومجلات تلك الفترة، فظهرت أسماء الشعراء، فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي وعبدالقادر الجنابي وأنور الغساني، مع التشكيليين شاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي وفايق حسين وإبراهيم زاير... إلخ، وكانت هذه التجربة تستفيد على صعيد التشكيل من بعض منجزات التجربة الغربية بربطها بسياقات ثقافية محلية وتراثية، وربما كانت تجربة بلند الحيدري الشعرية واحدة من التجارب المبكرة التي لم يُلتفت إليها كثيراً كما لم يُطوّرها هو نفسه، تحديداً من جهة اهتمامه بالتشكيل، فقد ذهب بلند الحيدري في مجموعته الشعرية «حوار عبر الأبعاد الثلاثة» إلى الاستفادة من عناصر النحت كالفراغ، المساحة والكتلة من النحّات الإنكليزي هنري مور.