في الذكاء الشعري

نشر في 22-10-2009
آخر تحديث 22-10-2009 | 00:00
 فوزي كريم الذكاءُ ضروري في الشعر وغيره، ولكن على ألا ينفرد بالشعر وحده. حينها يصير الشعرُ يخرج من الرأس وحده. وهذا ما ألمسه في أكثر ما يكتب من شعرنا المعاصر.

ولكي أقرّبَ موقفي في هذا الأمر الشائك عليّ أن أبدأ مع «الأغراض» في الشعر العربي. مع أن مخاطر الذكاء على الشعر لا تقتصر على الشعر العربي، فقد انتبه لها النقاد الغربيون جميعاً. معنى الذكاء في الأدب الغربي ارتبط تاريخياً بالتألق والبراعة الذهنيين، بالدعابة، وبالمخيلة، ولكنه لدى الرومانتيكيين صار قرين الصنعة، في حين انفردت المخيلة بالحقيقة... إلخ. في الشعر العربي بدت عزلةُ «الأغراض» الشعرية عن الشاعر الذي يتعامل معها صناعةً تحتاج إلى مهاراتٍ خاصة، لكي يبدو الشاعر في التعامل معها، مقنعاً للعرف الشعري العام المتفق عليه. وهذه العزلة هي التي أعطت مكانةً خاصة للذكاء والفطنة، لكي يبدو الشاعر باهراً في مدح خصال ومزايا لا حقيقة لها، أو في هجاء رذائل مبتكرة لا جذر لها، أو تخدير الذائقة العربية لدى القارئ بالسحر اللفظي، من أجلِ تقبّل «أنا» نرجسية، متورّمة كريهة، على أنها فضيلة، أو هبة من الله.

ارتباط الشاعر العربي بالأغراض، وهي في عزلتها عنه، جعله يتعامل مع الشعر كفن معزول عنه هو الآخر. وهذا الفن يتطلب معرفةً بقوى التأثير البلاغية واللفظية، بصورة متقنة. الشعرُ في جوهره يحتاج إلى ذلك بالتأكيد، ولكن حين يقتصر قدرُه على هذه المعرفة وحدها، يتحول إلى وعاءٍ لغوي لكل المهارات الذهنية والجمالية. هنا يبرز الذكاءُ الذي أعنيه كعنصر سلبي، على الشاعر الحقيقي الحذر منه.

كانت موهبةُ أبي تمام الشعرية كبيرة، ولكن استجابةَ ذكائه لمتطلبات الإدهاش والمفاجأة الخياليين، حيث الخيال يرتبط بالمهارة اللفظية، كانت لا تقل كبراً. المعري كان فائق الذكاء هو الآخر، ولكن حيرةَ روحه، وهي جوهر شعري، كانت أعمق من أن تتركه يصرف الوقت على الإدهاش والمفاجأة. كانت مخيلته تتسامى تلقائياً وغريزياً إلى أرفع مستوياتها الشعرية، لأنها مخيلة مولدة من رؤى وجدانية وفكرية، لأنها وليدةُ مشاعر، وأفكار لصيقةٍ بكيان أرضي. الأمر أكثر وضوحاً مع أبي نواس.

في الشعر الحديث يبدو الذكاءُ ضرورةً عند كل «شعراء العقيدة»، أو «شعراء القضية». إنهم يصدرون عن ينابيع جاهزة للشعر، ويصبّون في ذائقةٍ جاهزةٍ للتلقي. هناك جاهزيةٌ للتغني بالحس الوطني، والحس القومي، أو الحس الأممي، أو الحرية لدى الشاعر ومتلقي شعره على السواء. هذه الجاهزية تحتاج دائماً إلى الذكاء الذي أشرت إليه. الذكاءُ هنا ضروريٌّ لجعل مادة غير شعرية مادة مقبولة. الحرية ليست مادة شعرية إلا حين تكون وليدةَ حيرة الشاعر وتساؤلاته. ولكنها لدى شعراء «القضية» وليدةُ قناعة ويقين.

معظمُ القصائد، وقصائد النثر ضمناً، التي تُكتب اليوم محكومة بهذا الذكاء. ولكنه ذكاء يعتمدُ القصيدةَ الأوروبية المترجمةَ مصدراً للاستيحاء. أو يعتمد النص الغربي المتخيّل. إنه يعرف كيف يبدأُ النصَّ، وكيف يبني الصورةَ الصادمة، أو الجملةَ البلاغية، وكيف ينتقل ببراعة المفاجأة، أو براعة السياق السردي. كلُّ شيء يتم وفق عناصر للحداثة، أو ما بعدها، متفقٍ عليها بصورة تبدو غير واعية. الصحافة هي الحارس الأمين لرعاية هذه العناصر. وهي بالتالي الحارس الأمين لشعرائها جيلاً بعد جيل.

المتعة مع نص كهذا متعةٌ مصنوعةٌ هي الأخرى. ذائقةُ القارئ مصنوعةٌ على قياسه. نحن نرتجف مع بيت المتنبي إلى هذا اليوم، مع أنه مُثقل بالادعاء والنفاجة: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ...». ومازال الكثيرون لا يرون في أبي العلاء المعري شاعراً، بل فيلسوفاً. وحتى فترة ليست بعيدة أعيد الاعتبار لناثر ومفكر فائق الأهمية مثل أبي حيان التوحيدي. 

back to top