كانت بداية الاستئناف الواعد لمحادثات السلام مشؤومة، ولو أنها غير مباشرة، بين الإسرائيليين والفلسطينيين برعاية وسيط أميركي، فلم يكد يبدأ نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، زيارته إلى إسرائيل للتبشير بحقبة جديدة من التسوية وحسن النية حتى أعُلن، بشكل مقصود على الأرجح لتسميم الأجواء، بناء 1600 منزل جديد للمستوطنين اليهود في إحدى الضواحي اليهودية الكبيرة في الجزء الشرقي الملحق بإسرائيل من القدس التي يعتبرها الفلسطينيون العاصمة المستقبلية لدولتهم الغراء.

Ad

أثار ذلك غضب جميع السياسيين الفلسطينيين، ورأى العرب وصانعو السلام الأجانب الآخرون في ذلك أسوأ نذير، ومن جهته "أدان" بايدن هذا العمل باعتباره "الخطوة التي من شأنها بالتأكيد زعزعة الثقة التي نحتاجها اليوم".     

في المقابل، طلب رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الذي بدت عليه مظاهر الارتباك، من مساعديه الادعاء بشكل يصعب تصديقه بأنه لم يكن يعرف بقرار البناء، وفي اليوم التالي اعتبر وزير داخليته الإعلان مجرد خطوة "روتينية وتقنية"، مقراً في الوقت عينه بأن التوقيت سيئ ومقدماً اعتذاره، فلا عجب أن عززت الحادثة التشاؤم إزاء الجولة الجديدة الموعودة من المحادثات.

لاتزال نوايا نتنياهو غير واضحة؛ فاعتناقه المُعلن مبدأ ضرورة قيام دولتي إسرائيل وفلسطين جنباً إلى جنب، لايزال مقيداً بشروط تشير، في نظر كثيرين، إلى أن ذلك كان مناورة تكتيكية وليس عرضاً جدياً لاتفاق دائم، وعلى الرغم من شعوره بالإحراج بسبب إعلان وزير داخليته على الهواء نيته ببناء منازل يهودية في القدس الشرقية، لم يتحرك لإلغاء هذا الإعلان أو توبيخ الوزير. كذلك لم يكبح جماح عمدة القدس نير بركات الهائج، الذي كان يشجع أيضاً على بناء المستوطنات اليهودية في المناطق كافة الخاضعة سابقاً للسلطة الفلسطينية.

كذلك لم يتضح كيف تختلف المحادثات "غير المباشرة" عن المساعي الأخيرة للمبعوث الأميركي المصمم، جورج ميتشل، الذي يقوم بجولات مكوكية بين الطرفين منذ أكثر من عام. ستُعقد اللقاءات اليوم أيضاً في واشنطن بين كل من الجانبين والأميركيين، بشكل منفصل، إنما ليس بشكل مباشر بين الطرفين الأساسيين. في هذا الإطار، يلمح بعض الإسرائيليين إلى أن المفاوضات قد تجري في المبنى عينه إنما في غرف مختلفة. وبعد مضي 17 عاماً على تصافح القادة الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو، ها هي المفاوضات تُستأنف عبر وسيط فحسب.  

لكن الأسوأ بالنسبة إلى الفلسطينيين أن نتنياهو انتزع على ما يبدو ضماناً من الأميركيين (قبل أن يتعرض بايدن للإذلال) بألا تشكّل التنازلات التي قدمها سلفه، إيهود أولمرت، للرئيس الفلسطيني محمود عباس نقطة الانطلاق لمفاوضات جديدة. في المقابل، سيعود الطرفان إلى "خارطة الطريق" الخامدة منذ وقت طويل والتي وضعها جورج بوش منذ سبعة أعوام، ويُذكَر أن إسرائيل، بزعامة آرييل شارون آنذاك، أعطت موافقتها عليها عموماً إنما مع قائمة طويلة من التحفظات.

من جهته، يحث الرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء السابق، شيمون بيريز، نتنياهو على التحلي بالمرونة، وكبادرة جدية، التخلص من بعض الشركاء المتشددين في تحالفه وإشراك حزب كاديما الوسطي، بزعامة وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني التي حققت بعض الإنجازات المتواضعة في المحادثات السابقة مع الفلسطينيين، في الحكومة. ذلك أمر غير مستبعد، ومن دونه، لا يتوقع أحد إحراز تقدّم كبير.

من جهته، يخشى عباس أن يفتقر نتنياهو إلى الإرادة والأميركيون إلى السطوة بشأن إقامة دولتين، يتمثل مطلب عباس الأول في أن توقف إسرائيل بناء المستوطنات اليهودية في القدس الشرقية، لكنه قد يفكر في قرارة نفسه بأن التفاوض على حدود جديدة قد يثمر نتائج أفضل كخطوة تمهيدية، بما أن إسرائيل قد تنظر ملياً، حتى في عهد نتنياهو، في الانسحاب إلى حدود عام 1967، طالما أن مقايضات الأراضي تسمح لغالبية المستوطنين الإسرائيليين بالبقاء ضمن حدود معدلة. حين أجرى الطرفان أخيراً محادثات رسمية، اقترح عباس مقايضة 1.9 في المئة من الضفة الغربية بنسبة متساوية من أراضي إسرائيل، بينما عرض سلف نتنياهو، إيهود إولمرت، 6.5 في المئة (ومن ثم اقترح لاحقاً نسبةً أصغر). لذلك قد يجرّب ميتشل حظّه في مرحلة مبكرة بتضييق تلك الفجوة، الأمر الذي قد يعطي دفعاً لمفاوضات أوسع.  

إن أراد نتنياهو التعبير عن حسن نيته، يستطيع كذلك الأمر منح السلطة الفلسطينية بزعامة عباس المزيد من السلطة في الستين في المئة من أراضي الضفة الغربية التي لاتزال خاضعة للسيطرة الإسرائيلية. يستطيع أيضاً السماح للفلسطينيين بإنشاء المزيد من المشاريع هناك ووقف التدمير الإسرائيلي للمنازل الفلسطينية، هذا ويمكنه تخفيف عدد الاقتحامات العسكرية الإسرائيلية للضفة الغربية والسماح للمزيد من فلسطينيي الضفة الغربية بزيارة الأماكن الإسلامية المقدسة في وسط القدس.

إن ساهمت "المحادثات غير المباشرة" في زيادة أمد الجمود فقط، فستتراجع مصداقية الولايات المتحدة وباراك أوباما في المنطقة أكثر فأكثر، وفي المقابل، ستتصاعد الشكوك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الأمر الذي قد يشعل أيضاً انتفاضة أخرى كتلك التي اندلعت بعد فشل محادثات "كامب ديفيد" في عام 2000. يقول أحد المفاوضين الفلسطينيين بمرارة: "إنها لمهزلة أن نجري  مفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين طوال 17 عاماً، ولا نتفق سوى على عدم اللقاء رسمياً".

باقتراح من جامعة الدول العربية المؤلّفة من 22 بلداً، التي صادقت بقلة حيلة على خطة الجوار في أحد الاجتماعات في القاهرة في وقت مبكر من هذا الشهر، ستدوم المحادثات لأربعة أشهر فقط. وإن وصلت إلى حائط مسدود، فقد تسحب الجامعة، بحسب بعض الدبلوماسيين العرب، عرضها الذي قدمته في عام 2002 بقبول اتفاق سلام شامل مع إسرائيل في مقابل انسحاب هذه الأخيرة إلى حدود عام 1967، لكن العرب منقسمون كما هي حالهم دوماً، بالرغم من مصادقتهم على الخطة. فحلفاء الولايات المتحدة، مصر، والأردن، والسعودية، لا يحبذون اعتماد الموقف التصادمي الذي يطالب به الرافضون للخطّة. في المقابل، فرحت "حماس"، الحركة الإسلامية الفلسطينية التي ترفض رسمياً القبول بوجود إسرائيل، وداعموها المشككون بالإحراج الذي تعرّض له بايدن، وقد جاء في إحدى مقالات الافتتاحية في صحيفة "القدس العربي" الناطقة بالعربية في لندن، التي غالباً ما تعكس الرأي العربي المعتدل، أن الاتفاق أثبت إعلان حالة من الجمود في العالمين العربي والإسلامي. لذلك على الفلسطينيين الانتظار طويلاً على ما يبدو لكي يشهدوا على قيام دولتهم.