يسرد قاسم حداد في (ورشة الأمل) بعض تفاصيل وجزئيات ووقائع وأمكنة المحرّق، منذ الخمسينيات، يسرد في الوقت ذاته، طفولته هو، أو طفولة الشاعر فيه قبل أن يتحقق لاحقاً بالفعل، بدءاً من الولادة والدراسة التقليدية (الكتاتيب) ثم الدراسة الحديثة... ألخ. مع ما يتبع ذلك من مغامرات الطفولة والجسارة ورغبة الاكتشاف، تماماً كفكرة الدخول في المغامرة الشعرية.
وعلاقة قاسم بالمكان، (المحرّق) ترتفع الى مرتبة الوجود الحق، عندما يصف هذه العلاقة بأنها (مثل سيفٍ وُلد في غمدهُ)، انها البدء والمنتهى، علاقة لا تنفصم رغم التحولات التي ستطرأ على المكان وعلى الشاعر معاً. إن اللحظتين الباهرتين، المؤثرتين في تكوين قاسم في مدينة المحرّق تتجليان هكذا: بوصف المحرّق كما يقول هو: مدينة الأبواب المفتوحة دائماً، وبوصفها أيضاً ورشة الأمل، فضاء من الحريّة لا يُحد إذن، ودفء انساني في العلاقات الاجتماعية. هذه الحيوية ستغمر الشاعر - الصبي بمشاعر التأمل والانفتاح، وتقدير الآخر، بحيث تبدو العائلات المقيمة ليس في الحي الذي كان يقطنه فحسب، بل في المدينة كلها، أقول تبدو كأنها عائلة واحدة، لهذا الحنين الجاذب، المصهور بدفء القلب، علامة كاشفة عن سياق العلاقات الاجتماعية في مدينة المحرّق وفي كثير من المدن العربية، في تلك البرهة البعيدة من الزمن، لم يعد الأمر كذلك بالتأكيد. يتحدث قاسم حداد عن المحرق بلوعة، وبنبرة رثائية، كأنما إذ يرثي المدينة يرثي ذاته، خصوصاً في الفصل المعنون (الذي لا يُستعاد ولا يضاهى، ولا يقبل الفقد) في هذا الفصل بالتحديد تظهر جذوة الحنين، الى الأمكنة التي تبدو قصية في الذاكرة. «حنين جريح» يكتب قاسم حداد. مدينة، اعطت من زبدة روحها، بذرة الأمل، مدينة امتزج فيها التاريخ الاجتماعي والسياسي والعصيان، بقوة الحياة، فتم اهمالها ومعاقبتها. أحسب ان قاسم حداد يكتب عن المكان ليس بوصفه تجربة حسية فحسب بل تجربة روحية في الأصل، هو الذي خبر في المحرّق مبكراً مهناً عديدة، ليس أقلها مهنة الحدادة.مهن الناس البسطاء، أو بالأحرى مهن الحياة. وغالباً ما تولّد هذه المهن رغم الظلم وبسببه ربما، حساً عالياً بالكرامة، والصدق والكبرياء والمشاركة. الفئة العاملة هذه هي التي سيكون عليها أن تقدح شرارة الانخراط في الفعل السياسي، بكل اشكاله التنظيمية من الاعتصامات والتظاهرات والمطاردات والسجن. هذا الوعي السياسي المبكر عند قاسم حداد هو الذي سيتم التعبيرُ عنه في اعماله الشعرية الاولى بلغةٍ تحمل أنفاس تلك الفترة، لتتحول اعماله لاحقاً الى نوع من الاستبطان الشعري والجمالي، للدخول في مغامرة ابداعية أكثر تنوعاً وعمقاً ووعورة وتجريباً وبحس انساني رهيف. يتحدث قاسم في الكتاب عن الطفولة المشاكسة أيضاً، عن أصدقاء الصبا والمدرسة، عن الهروبات الكبرى وبالتالي العقوبات المنتظرَة عن التيه والضياع في أمكنة بعيدة بالنسبة إلى صبي لا يتجاوز العاشرة. يتحدث عن عالم الكبار بعين دهشة الطفل، عن الحرمان والمشقات لكن عن ذهب القناعة أيضاً، وبوفاءٍ صادقٍ يتحدث عن مدرسيه ومن ترك أثراً وعلامة في مسيرته، عن أحياء المحرّق البعيدة والقريبة. تنثال ذاكرته للحديث بلغة لا تنقصها الدعابة المحببة عن شخصيات شعبية أو وقائع مر بعضها كالطيف. وهو إذ يكتب يعطي لكل ذي حق حقه.هكذا يوزع العدالة على المحرق إن لم نقل على البحرين كلها.غير أن قاسم يميل مع ذلك الى جهة البحر ولم أكن أعرف أن علاقة قاسم حداد بالبحر، فيها من الامتلاء والشغف والغبطة حتى قرأت «ورشة الأمل». [غالباً ما أغبط وأحسد أصدقائي الذين شكل البحر في حياتهم ما يُشبه جوهرة الروح، لقد كان قدري أن أتربى في بيئة جبلية – زراعية بعيداً عن البحر]. سيكتب قاسم إذن عن البحر رغم قسوته أحياناً بألفة شعرية ولكن بمعرفة أكيدة سواء من خبرته الشخصية أو خبرة والده وعمه أو الناس من حوله. في الكتاب ملحقان يتناولان تجربتين مغايرتين هما، الليل في الاحساء، والجبل في عُمان، وحسناً فعل قاسم حداد حين ادرجهما في سيرة المكان، ذلك لأن الكتاب كله وان كان سيرة شخصية لمدينة المحرّق إلا انه يرتّب المكان بوصفه باباً مفتوحاً ابداً. هذا أولاً وثانياً، لأن «ورشة الأمل» مكتوب لأضاءة جغرافيا الروح. وعندما زار قاسم حداد عُمان للمرة الأولى وكتب نصّه الجميل عن الجبل الأخضر- وكان واقعاً تحت فتنة حكاياته منذ الطفولة - كان يستجيب لدهشة المغامرة الشعرية، وألق احلام المستقبل. انه حنين ووفاء أيضاً لدروب العدالة. يتمسك قاسم حداد بحقّه في استعادة صورة مدينته المحرّق وكأني به ينظر الى شريط حياته ليعيد ترتيب الاشياء في الذاكرة. يتأمل ربما بحرقة أو بنوع من الأسى، تحولات العالم والزمن، لكنه يقف هناك، بثبات أمام البحر، ممسكاً بيد حفيدته الصغيرة ليوشوش في اذنها بحكاياته عن البحّارة والغائبين.
توابل
المكان بوصفه بابا مفتوحا
22-07-2009