حسنا... لنزيل اللبس الحاصل أولاً في عنوان المقال، فالحديث هنا عن المطْلَقة بفتح اللام لا عن المطَلَّقة بتشديدها، والمطْلقة، وليست المطلَّقة، هنا هي حرية الرأي، فقد جاء في مقال أستاذنا عبداللطيف الدعيج- الذي يبدو ألا عمل لي هذا الأسبوع سوى الرد على بعض شطحاته- والذي نشر في جريدة "القبس" يوم الثلاثاء الماضي هذه الفقرة: "حرية التعبير لا تعرف حدوداً، وليس هناك حرية مسؤولة وغير مسؤولة، الحرية "مطلقة" تماماً، وأي مسؤولية هي تقييد رجعي لحرية التعبير، وأي تقنين هو مصادرة للآراء وحجر عليها"!

Ad

ما قاله الأستاذ الدعيج في هذه الفقرة يشبه إلى حد بعيد ما جاء في تعليق أحد القراء على مقالي السابق حين قال: "الظاهر لازم نكرر ونقول شنو معنى حرية الرأي كل يوم ليما الناس تستوعب، حتى الصعلوك والسخيف والسفيه له حرية رأي، وفي الدول المدنية والديمقراطية حرية التعبير العام مكفولة للجميع. والجميع معرض للمساءلة القانونية في حالة السب والقذف والشتيمة والإهانة، وهذا يحفظ حقوق المستمع والمقصود به من الرأي، للأسف الكاتب الفاضل يا كان ناسي هالشي أو قاعد يتناسى"!

يجب أن أذكر هنا أن القارئ "طارق" كان متضايقاً من قلة فهمنا لمعنى الحرية فقد كان عنوان تعليقه: "إنتوا ليش مو راضيين تفهمون؟!"

الحق أنني حاولت أن أفهم قدر الإمكان معناها، ولذلك، بحثت عن تعريف واضح ومحدد لحرية الرأي، فوجدت ضالتي في مقال منشور في الموسوعة العربية "ويكيبيديا" حيث جاء فيه: "حرية الرأي يمكن تعريفها بحرية التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو العمل الفني دون أي رقابة أو قيود حكومية، بشرط ألا يمثل طريقة ومضمون الأفكار أو الآراء ما يمكن اعتباره خرقاً لقوانين وأعراف الدولة أو المجموعة التي سمحت بحرية التعبير، ويصاحب حرية الرأي والتعبير على الأغلب بعض أنواع الحقوق والحدود مثل حق حرية العبادة وحرية الصحافة وحرية التظاهرات السلمية"!

في نفس المقال المنشور في الموسوعة يضع الكاتب بعض الأمثلة التي تثبت أن الحرية "غير مطلقة" حتى في أكثر الدول ديمقراطية وإيماناً بالحرية كما يزعم البعض، إنما تحكمها المصلحة العامة للمجتمع والدولة في كثير من الأحيان، إليكم بعض النماذج من "حدود" حرية الرأي والتعبير في العالم:

في فرنسا: يمنع القانون الفرنسي أي كتابة أو حديث علني يؤدي إلى حقد أو كراهية لأسباب عرقية أو دينية، ويمنع أيضاً تكذيب جرائم الإبادة الجماعية ضد اليهود من قبل النازيين، ويمنع أيضاً نشر أفكار الكراهية بسبب الميول الجنسية للفرد، وسبق للقضاء الفرنسي أن اتهم المفكر الفرنسي رجاء جارودي بتهمة معاداة السامية حسب قانون "جيسو"، ومنع أيضاً نشر لوحات دعائية تابعة لبيت قيغباود لتصميم الملابس وأمر بإزالتها خلال 3 أيام لأنه اعتبرها مسيئة للروم الكاثوليك وتدخلا مشينا وعدوانيا في معتقدات الناس الخاصة.

في ألمانيا: ينص البند الخامس في القانون الأساسي الألماني الذي يسمى Grundgesetz على حق حرية الرأي والتعبير، ولكنه يرسم حدوداً مماثلة للقانون الفرنسي تمنع خطابات الكراهية ضد العرق والدين والميول الجنسية، إضافة إلى منع استعمال الرموز النازية مثل الصليب المعقوف.

في كندا: يمنع القانون الكندي خطابات وأفكار الكراهية ضد أي مجموعة دينية أو عرقية، وتمنع الأفكار أو الكلام أو الصور التي تعتبر مسيئة أخلاقياً من الناحية الجنسية حسب القوانين الكندية.

في الولايات المتحدة: وضعت المحكمة العليا مقياساً لما يمكن اعتباره إساءة أو خرقا لحدود حرية التعبير، ويسمى باختبار ميلر Miller test ويعتمد المقياس على 3 مبادئ رئيسة وهي: إذا ما كانت أغلبية الأشخاص في المجتمع ترى طريقة التعبير مقبولة، وإذا ما كانت طريقة إبداء الرأي تتعارض مع القوانين الجنائية للولاية، وإذا ما كانت طريقة عرض الرأي تتحلى بصفات فنية أو أدبية جادة.

في بلجيكا: منعت السلطات المحلية لمدينة Middelkerke الفنان ديفيد سيرني David Cerny من عرض تمثال للدكتاتور صدام حسين في أحد المعارض الفنية، يظهر التمثال صدام حسين على هيئة سمكة قرش ويده مكبلةٌ بالأغلال من الخلف في حوض من الفورمالين، وقد اعتبرت السلطات هذا العمل الفني مثيرا للجدل ويتسبب في احتجاجات من أطراف مؤيدة للرئيس المخلوع.

إذن... ليس هناك حرية رأي "مطلقة" حتى في الدول الأكثر تحضراً وتحرراً، فالحرية المطلقة تتحول بمرور الأيام إلى فوضى عارمة تعصف بكل شيء حولها، والعقل والمنطق والمصلحة العامة تشترط وضع حدود لها تتغير ووتبدل وفقاً للظروف الأمنية والنسبة السكانية للأعراق والطوائف والديانات التي تعيش ضمن هذه الدولة أو ذاك المجتمع... ولا يمكن أن تُترك سائبة لكل سفيه وقليل عقل يعبث بها ويستغلها أبشع استغلال كما حدث منذ أيام!