طليطلة... مدينة إسبانيّة تأسر القلوب
مدينة طليطلة الوحيدة التي كنت أعرف بوجودها هي تلك التي تقع في أوهايو. إذ لم أكن أملك أدنى فكرة أن في إسبانيا مدينة طليطلة أخرى إلى أن وجدتها عرضاً ضمن محطات الرحلة.هكذا، انتهى بي المطاف في مدينة أوروبية يعود تاريخها إلى العصر البرونزي، جالسةً في مقهى أتناول حلوى churro مغمسة بشراب الشوكولا الأغنى والأشهى مما تذوقته يوماً. وعند انتهائي من تناول القطرات الأخيرة من المشروب قلت لزوجي إن مذاقه من مذاق الجنّة.
أعتقد أنه يمكنني أن أختصر بهذه الكلمات الأيام الأربعة التي أمضيتها على متن سفينة Royal Caribbean الإسبانية قبل أن أنتقل إلى سفينة Mediterranean.مفهوم الرحلة البحرية بسيط: بضع أيام قبل أو بعد الرحلة المقررة، يؤخذ السياح في جولة سياحية تبدأ أو تنتهي في المرفأ الذي ترسو فيه سفينتهم. تهتم الشركة السياحية بحجوزات الفندق وجولات سياحية تدوم نصف يوم، ووسائل النقل وبعض الوجبات. وقد تبلغ كلفة الرحلة السياحية التي تمتد على أربعة أيام 1500 دولار أميركي للشخص.تتسع السفن السياحية الأوروبية لعددٍ يتراوح بين 10 و 30 سائحاً ويرافق دليل سياحي الفريق طوال الرحلة، وينضم إليه أدلاء سياحيون إضافيون عند مواقع مختلفة. يقول Showeshi Strickland-Boston، مدير مبيع وتسويق cruisetour في Royal Caribbean: «خلال الرحلة السياحية، قد نزور روما، لكن هذه المدينة لم تبنَ بين ليلةٍ وضحاها، فكيف نتوقع زيارتها في يومٍ واحد؟ في رحلاتنا، نمضي ليلتين هناك، من ثم نسافر إلى مدينةٍ أخرى لليلتين وهكذا دواليك... فلا يشعر السائح بأنه مدفوع أو على عجل». إلا إذا كانت العجلة من شيمكم مثلي. إذ أحاول دائماً حشر قدر ما يمكنني في الرحلة، سببٌ آخر جعل هذه الرحلات البحرية تناسب أسلوبي. كنا نمضي نصف كل يوم ضمن فريق من عشرة أشخاص ويتسنى لنا وقتٌ كافٍ بعدها للمضي إلى الأماكن التي يهمنا استكشافها وحدنا. تمكّنا من رؤية أربع كاتدرائيات في غضون أربعة أيام، ثلاث منها من تصميم أنطونيو غاودي، ساحتي مصارعة ثيران وقصر، ونوافير لم نتمكّن من عدّها حتى. التقينا عدداً من السياح الآخرين وأنشأنا معهم علاقات ودية، ومنهم زوجان من لافايت. كذلك، استقلينا حافلات وسيارات أجرة وقطارات سريعة. والأهم من ذلك أننا أدركنا أن جولةً سياحية بحرية واحدة لن تكون كافية. أسرت إسبانيا قلبي منذ اللحظة التي وطئت فيها الساحة الكبرى في مدريد؛ هذه الساحة التي شيّدت في العام 1617 شهدت يوماً مصارعات ثيران وتتويجات ملكية وإعدامات. وقد تحوّلت اليوم إلى محطة شعبية للسياح والسكان المحليين على حدٍّ سواء، وفي خلال زيارتنا في شهر أيار/مايو الماضي رأينا فيها مجموعة من الأولاد يطاردون فقاقيع. مررنا بقوس نصر حجري ووجدنا طرقات الساحة الداخلية تعجّ بالمقاهي والفنانين المنكبين على الرسم. ولفتنا بناء Casa de la Panaderia الضخم المزيّن بالجداريات الخاطفة الأنفاس. كذلك، تضمّ مدريد متحف برادو حيث دفعتنا دليلتنا السياحية للتأثر بلوحات دييغو فازكيز وفرانسيسكو غويا. يُذكر أن لوحة Las Meninas لفازكيز إحدى اللوحات الثلاث الأشهر في العالم، إلا أنّ لوحاته الملكية الأخرى أسرت فؤادي أكثر من هذه. أشارت ميرابيل إلى أن فازكيز كان غالباً يرسم مجدداً فوق أجزاء من لوحاته، ويمكن رؤية الأجزاء الأساسية كالظلال. منذ فترةٍ وجيزة كنت أجرّب نسختي الخاصة من لعبة «أين والدو؟» في محاولةٍ لفهم رسومه. كنت أتجوّل برفقة زوجي، وحدنا، في فترات ما بعد الظهر لاستكشاف مدريد إلى أن وجدنا عَرَضاً القصر الملكي. تبعنا الطابور من دون التفكير في الأمر حتى لنجد أنفسنا نشتري تذاكر لدخول القصر السابق المترف الذي سكنته في الماضي الأسر الملكية الإسبانية. ضحك زوجي قائلاً: «يشبه البيت الأبيض منزلاً في مزرعة ريفية مقارنة بهذه الفخامة»: 25 غرفة مفتوحة أمام العموم، وواحدة منها مخصّصة «للتحادث» وأخرى مصنوعة من الخزف لا غير. تطلّ هذه المساحات على حدائق القصر الخاطفة الأنفاس وعلى جزء كبير من مدينة مدريد. استقلينا في اليوم التالي حافلة للتجوال في أرجاء طليطلة (أو توليدو والتي تلفظ بالألف عوض الواو). تتمركز العاصمة الإسبانية فوق تلالٍ خلف جدران صخرية مدعمة بالأبراج ومحاطة بنهر. وتكمل الطرقات المرصوفة بالحصاة والأبنية الحجرية والأزقة الضيقة والمصابيح السوداء هذا المنظر الذي يحمل خيالك إلى العالم الغابر، ولا تطبعه من الصور الحديثة إلا الحافلات العامة وأقواس ماكدونالدز الذهبية. لا تتميز طليطلة بمشروب الشوكولا اللذيذ وحسب، إنما أيضاً بكاتدرائية على الطراز القوطي تنافس بجمالها الروائع التي تفتخر بها إيطاليا. دقة تفاصيلها أخّاذة، فحتى أعمدتها الحجرية منحوتة بأسرها على نحوٍ معقّد. مذبحها هائل الحجم والمدى ومصنوع من الخشب المنحوت والأوراق الذهبية التي استلزم صنعها جهود عشرين فناناً مجتمعين. أما الجزء الأروع منها فهو مذبح الباروك المسمى أيضاً El Transparente مع ما يتضمنه من فتحة تلقي الضوء على التماثيل واللوحات والسبائك البرونزية والرخام الملوّن من تصميم نارسيسو تومي. عندما بدأنا نتأمل أعمال تومي، سطعت الشمس فجأةً عبر الفتحة ملقية بأشعتها اللامعة عليها فخطف المشهد أنفاسنا بكل ما للكلمة من معنى. توقّفنا أيضاً لرؤية ثاني أكثر لوحة روعةً في العالم، لوحة إل غريكو المسماة The Burial of the Count of Orgaz (أي «دفن كونت أورغاز»). بعدها عدنا إلى مدريد واستقلينا القطار السريع للوصول إلى برشلونة (وهي حتماً الطريقة الفضلى للسفر في أنحاء إسبانيا). خلال تجوالنا في برشلونة مررنا بالملعب الأولمبي للعام 1992 وحظينا بإطلالة رائعة على المدينة وكاتدرائية أخرى على الطراز القوطي، إضافةً إلى المطاعم والمحال التجارية المنتشرة في Las Ramblas وكل ما يمكن مشاهدته من تصاميم غاودي. تتمتع برشلونة بعددٍ كبير من المباني القيّمة ولعلّ أهمها سيغرادا فاميليا (Sagrada Familia) من تصميم غاودي، الذي يبدو أشبه بقصرٍ رملي هائل مدموغاً بدمغة مصمّمه المحبّ للغرابة. ولا تزال الكاتدرائية قيد الإنشاء وقد لا ينتهي العمل بها حتى العام 2016 بحسب ما قال دليلنا السياحي. جررت زوجي إلى Casa Mila مدفوعة بإعجابي الكبير بأعمال غاودي وتصاميمه الغريبة، هناك تجد أحد المبنيين السكنيين اللذين صمّمهما هذا الفنان وفُتحا أمام الزوار. تجوّلنا في غرف إحدى الشقق وذهلنا إزاء الالتفافات والممرات الغريبة والأثاث الشديد الانحناءات. وهرولنا بعدها للاستمتاع برؤية السطح قبل أن يتسبب المطر بإغلاقه أمامنا... هناك بدت المداخن الغريبة ملائمة لأجواء كتب الدكتور سويس. ثم تنزهنا على الواجهة البحرية التي كانت في الماضي منطقة مهدمة وأعيد ترميمها قبيل المباريات الأولمبية في العام 1992 وباتت اليوم مدينة تزدهر بالأعمال والسياح. تناولنا عشاءنا الأخير في هذه المدينة في مطعم (El Cagrejo Loco Crazy Crab) واستمتعنا بطعم الـ{تاباس» وتناولنا أطيب المشروبات وتشاركنا ذكريات مع أعضاء الفريق الآخرين... وعدنا إلى السفينة لرحلة العودة.