فلسفة عصرنا و جرثومة الانهيار: استهلك حتى تهلك
لا أعول كثيراً على ما يكتبه روجيه غارودي، فهو «مؤدلج» حتى أخمص قدميه، وأنا أكتفي بالاطلاع على آراء المؤدلجين، وإن كنت لا أتبناها، لأن همي «معرفي» بالدرجة الأولى... وقد التقيت بروجيه غارودي عندما كنت بباريس، وأجريت معه مقابلة فكرية، نشرتها في كتابي «العالم والعرب سنة ألفين» الصادر، عن دار الآداب ببيروت عام 1988.
وهو مفكر معبأ ضد الولايات المتحدة الأميركية، ولا يلام أي شخص، خصوصا من منطلق يساري أو عالمثالثي، إذا تعبأ ضدها فسلوكها السياسي في هذه المنطقة من العالم يبرر ذلك، لكني أفضل النظر «للظاهرة الأميركية» في سلبياتها وإيجابياتها، وإذا كانت سلبياتها واضحة للعيان، فمن «إيجابياتها» الجديرة بالذكر أنها بلد البحث العلمي والجامعات، كما أنها بلد الملتقى العظيم المتفاعل بين الأعراق والأجناس، حيث استطاع شخص غير أبيض كالرئيس أوباما الوصول إلى الرئاسة لأول مرة في التاريخ الأميركي.إلا أن روجيه غارودي، في كتابه الصادر بالفرنسية، والمنشور في بيروت عام 1998، بعنوان «الولايات المتحدة طليعة الانحطاط!» قد مر بفكرة أعجبتني وأشاركه الرأي فيها، وهي كما لخصها أحد الباحثين: ...منطق السوق الذي يقول عنه روجيه غارودي بنوع من التهكم بأنه يؤسس «لديانة توحيدية» كونية جديدة هي «ديانة السوق»، ولما كان «منطق السوق» منفلتاً من كل منطق، فإنه يتعذر إذن وضع استراتيجية تحكّم ومراقبة دائمة، لأن السمة الطاغية على الأسواق العالمية عدم استقرار المعاملات والأزمات.إن هذه ظاهرة حقيقية تسود العالم وتتمثل في الأزمات المالية الدورية والانهيار المفاجئ للبورصات والعملات والبنوك– (مركز دراسات الوحدة العربية، العولمة والنظام الدولي الجديد، بيروت 2000، مصطفى بن تمسك «ص 138»).فقد استمرت البنوك في تشجيع مواطني كل الدول على «الاقتراض السهل» منها لأجل شراء الكماليات، ومد أرجلهم أكثر مما تحتمله ألحفتهم، ثم عجزهم، في النهاية، عن سداد تلك الديون مما أدى إلى انهيار البنوك في أكثر بلدان العالم.ومنذ سـتينيات القرن العشرين، تنبأ الفكر الاقتصادي الأميركي بدخول «مجتمع الاستهلاك» ضمن التطور «الطبيعي» للعملية الاقتصادية. ورغم النبرة العالية للفكر الماركسي في نقد «الرأسمالية» فإنه لم يشذ عنها في الخضوع لمتطلبات الاستهلاك، وربط «نجاحاته» في مختلف البلدان التي ساد فيها، بقدرته على الاستجابة لمتطلبات «الاستهلاك»، كما يوجه «النقد» ذاته إلى التجارب «الآسيوية»، فقد تركز همها، عبر نضالاتها المشهودة، على توفير المتطلبات الاستهلاكية لمواطنيها، واعتبرت ذلك مقياساً لنجاحاتها، كما نلحظ اليوم في الصين، وكما لمحنا من قبل في اليابان، وربما في الهند ودول أميركا اللاتينية اليوم وغداً.إنه المبدأ ذاته: استهلك حتى تهلك! لا يحتاج الإنسان حاجة حقيقية، في أي مكان من العالم، إلى استهلاك ما يستهلكه أو «يقتنيه» في يومنا هذا، فمن حيث الأكل ينشغل الناس بتخفيف أوزانهم وشحومهم في المجتمعات التي أصبحت قادرة على استهلاك «الغذاء»! ويبتلعون الأدوية تلو الأدوية لتفادي مضار ذلك على صحتهم وحياتهم... وفي أرفف الملابس هناك «موديلات» معلقة منها، لم تلبس إلا مرات قليلة، وأحياناً مرة واحدة فقط لا غير!وازداد عدد السيارات المنزلية، بحيث أصبحت لدى كل فرد في العائلة سيارة خاصة بمفرده، حتى لو اشتراها بالدين والتقسيط. ونجم عن ذلك ازدحام المرور وعرقلته وتأخر من يريدون الوصول إلى أعمالهم، أو انصراف بعض الناس عن الخروج من بيوتهم أصلاً!وتلوثت البيئة بدخان المصانع لإنتاج المزيد والمزيد من متطلبات «الاستهلاك» وتراكمت الساعات والأقلام وأصناف الهدايا لدى الأفراد المقتدرين، بينما ملايين الفقراء في العالم يعانون مجاعات وأمراضا ومساكن يمكن أن تقع على رؤوسهم. لا يذهب الإنسان المقتدر إلى السوق وقت الحاجة وفي ذهنه شيء محدد– يحتاجه– كي يشتريه، لقد أصبح البعض، خصوصا النساء، يذهب إلى «التسوق» كعادة وتسلية وبرنامج يومي لا يمكن الاستغناء عنه.إنها ظاهرة «استهلك... حتى تهلك» في طريقها لأن تصبح مقياس الرخاء والازدهار و»التقدم» لدى كثير من المجتمعات!فهل يحصل التقدم بهذه الطريقة؟!بل إن «ثقافة العصر» وعلومه ومعارفه صارت، من طرف خفي، تشجع على الاستهلاك الذي مدخله التسوق! ففي العلاج النفسي، صار بعض «الأطباء» يقولون: إن أفضل طريقة لعلاج «الاكتئاب»– وما أشد انتشاره في عصرنا!– الانشغال بالتسوق وشراء المرأة لما تريد من أحذية وفساتين! علماً أن «الشراء العصبي» تحت وطأة الاكتئاب لا يؤدي إلى اختيار «الموديلات» المناسبة!حتى هذا...!!فهل هو استهلك... حتى تهلك؟ أم استهلك... حتى تصح؟!و»العولمة» ظاهرة موضوعية غير مسؤولة عن تفاقم نزعة «الاستهلاك» في عالمنا المعاصر... والناس، بمختلف طبقاتهم، عبيد هذه النزعة منذ فجر التاريخ. فلم يكن «الترف»- وقد سماه ابن خلدون «الترف المُؤذِن بخراب العمران»- وليد العولمة... فقد تحدث القرآن الكريم عن الترف والمترفين مراراً، واعتبرهم مسؤولين عن خراب ديارهم.في أعماق الغريزة البشرية: صوت صارخ يقول: «استهلك حتى تهلك!».* مفكر من البحرين