المرآة الأجمل

نشر في 13-07-2010
آخر تحديث 13-07-2010 | 00:00
 طالب الرفاعي أتخيل الحياة اليومية لأي إنسان، كما لو كانت لوحة «jigsaw puzzle» مكوّنة من مئات، بل آلاف، القطع الصغيرة، المتلاصقة بعضها إلى بعض، والمغطاة بلون واحد شفاف، بالكاد يظهر الحدود الدقيقة بين أجزائها. لكن، إذا ما اندلقت صبغة الفن السرية، على سطح هذه اللوحة، فإن أجزاء اللوحة الصغيرة، ويا للعجب في ذلك، تأخذ بالتلون بألوان مختلفة، ألوان حادة وربما صارخة في تناقضها وتنافرها!

صبغة الفن السرية المبدعة، تهتك عن أي لوحة إنسانية سترها الخادع، وتنفي عنها لونها الواحد المحايد، ناشرة، على العلن، تباين ألوانها، ومثيرة الدهشة في عيون وقلب الرائي والمتلقي.

إن أياً منا، إنما يحيا حياته مغطاة بغلالة من الخصوصية والستر والحياد، وربما التخفي في بعض جوانبها. ولا أظن أن هناك بصمة حياة تشبه بصمة أخرى. كل حياة هي عالم قائم بذاته، وربما شكّل الاقتراب من حدود أي لوحة إنسانية، وتسليط عدسة مكبِّرة على أدق تفاصيلها، المهمة الأجمل للإبداع والفن. ففي الاقتراب من حياة الغير اقتراب من حياتنا، وفي تعرية أجزاء من لوحة الغير، تعرية لأجزاء من لوحة حياتنا المخبأة.

لا أحد يرغب في تعرية وفضح نفسه، في أفكاره ومكره وضعفه وربما دناءته. الفن مرآة، يعري هواجسنا وأحلامنا، لكن على هيئة الآخر وفي صورته. لذا يدغدغنا سرٌ خفي ونحن نتابع كشف أجزاء من حياتنا وعوالمنا منسوبة إلى غيرنا. وحده الفن يوفر هذه المتعة والدغدغة السرية العجيبة لنا. ففي مختلف صوره، يدع الفن الفرصة مبذولة أمامنا لرؤية النقص والنقيصة في الآخر، وليس فينا، مع إدراكنا أن ما نراه أو نقرأه هو نقص وخلل إنساني مشترك، لكنه نقص يأتي محمولاً على الآخر، وما دام كذلك، فلا ضير أبداً في تلقيه ومتابعته والتفاعل معه.

الإنسان بطبعه فضولي، متعطش دائم لمعرفة نفسه، والاستزادة من الانكشاف على أسرارها وخباياها، لكنه في الآن ذاته متحفظ وخوّاف وجبان في تعريض نفسه لأية تجربة، لذا يتابع بشغف ومتعة أي تجربة إنسانية تُجرى على غيره، بينما يكون هو في مقعد المتفرج، يعيش المغامرة دون مخاطرة.

وربما هذا وحده كافياً لإعطاء الفنان المبدع، المكانة الرفيعة والمتميزة التي يستحقها، فلقد ارتضى لنفسه أن يكون فأر تجارب، يُعرّض نفسه، جسديا ونفسياً، لتجارب ومواقف يرفض الآخرين بشدة أن يعرّضوا أنفسهم لها. يلعب أدواراً جريئة، من صلب حياة الإنسان الخفية، يستحسنها ويصفق لها آلاف بل ملايين البشر، وفي الوقت نفسه، ينأون بأنفسهم بإصرار عن القيام بها.

لا غنى عن الفن المبدع بكل أجناسه وصوره، لأنه يقدم للإنسان فهماً متجدداً عن خفايا وأسرار نفسه. ولا غنى عن الفنان المبدع، لأنه يُقدم راضياً على ما نعجز نحن عن الإتيان به. 

back to top