انهيارُ المجتمع المدني قتلَ الديمقراطية في العراق
بعد المقال الذي نشرته مجلة "لوموند ديبلوماتيك" في مارس 2010 على لسان كاتبها نيرروزن، الباحث في مركز القانون والأمن، في جامعة نيويورك، والذي قال فيه تصديقاً لما سبق أن قلناه هنا في "الجريدة" في عدة مقالات، من أن "الحكومة العراقية الحالية فاسدة، وعنيفة، وقمعية، إنما قوية، وتُبدي تصميماً على فرض سلطتها بالكامل، ولقد أخطأ من كانوا يأملون المصالحة بين الطوائف، فهي لن تحصل، وليست ضرورية، إذ تحوَّل المالكي إلى صدام حسين جديد!" "الإندبندنت": طبقة سيئة من السياسيين
وبعد مقال "اللوموند" هذا، نشرت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية مباشرة، تقريراً بقلم باتريك كوكبيرن عن الوضع العراقي، جاء فيه ما قد أكدناه كذلك في مقالاتنا السابقة هنا في "الجريدة"، من أنه "بعد سبع سنين على سقوط نظام صدام حسين، مازالت البلاد غير مستقرة، ومنقسمة بشكل كبير، فالأحزاب والجماعات منقسمة إلى حد عدم تشكيل حكومة منذ الانتخابات العامة التي جرت قبل ثلاثة أشهر، والتي كان القصد منها أن تكون مرحلة حاسمة في عودة العراق الى الوضع الطبيعي، بل إن القادة السياسيين، لم يبدؤوا بمفاوضات جادة حتى الآن حول تقاسم السلطة!"ويضيف كوكبيرن، أن أحد الوزراء العراقيين السابقين قال له: "لم يسبق لي أن كنت محبطاً لهذه الدرجة، تجاه مستقبل العراق. الطبقة الحاكمة من اللاجئين السياسيين، التي تولت السلطة بعد 2003، سيئة جداً. ليس لديها سياسة، غير البحث عن أي مدى يمكنها سرقة الدولة!" وأضاف كوكبيرن: "إن العنف المتواصل - رغم انخفاضه بشكل كبير- ليس هو ما يقلق العراقيين كثيراً، بقدر ما يقلقهم الفساد وسرقة الدولة. لقد اكتسب العراق نخبة حاكمة مهووسة بالسرقة، تدير الحكومة كوسيلة لتحقيق أرباح طائلة!"أسباب الانهيار السياسي - الأخلاقيفالح عبدالجبار عالم الاجتماع العراقي، يتحدث عن أسباب هذا الانهيار السياسي-الأخلاقي الذي يشهده العراق الآن، متمثلاً أولاً، بانتشار الفساد المالي والإداري، الذي سبق أن تحدثنا عنه كثيراً في مقالاتنا، وتحدث عنه كثيرون من الكتاب العراقيين، ومن غير العراقيين. ومتمثلاً ثانياً، في هذا الصراع الطائفي الديني العشائري على المناصب، والمنافع، والمصالح، ومتمثلاً ثالثاً، في هذا الاحتقان السياسي الذي يشهده العراق منذ 2003 إلى الآن، والذي اشتد، واستعصى الآن، بتمسك السلطة العراقية بالسلطة، وإعلانها من وقت لآخر، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، عدم رغبتها بتسليم السلطة للآخرين من الفائزين في الانتخابات الأخيرة. وكان آخر تصريح للمالكي على قناة "الحرة" (15/6/2010) يقول: "إن التصريح الذي نقلته عني صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، لم يكن دقيقاً بسبب الترجمة". (سبق أن قال للصحيفة المذكورة، بأنه الأقوى في العراق الآن، ولكنه تراجع بحجة "سوء الترجمة"، وهذا رد معظم الزعماء العرب عندما يتورطون في التصريحات). وأضاف المالكي: "ليس لي أن أدعي أنني أنا القوي، والآخر ضعيف من الإخوة الشركاء في العملية السياسية، لكن الظروف والتحديات التي يمر بها البلد قطعاً، لا يمكن أن نتحدث إلا عن أن البلاد تحتاج الى رجل قوي. فإما أن يكون الرجل القوي محصوراً بالمالكي، أو بأي شخص آخر". وهي إشارة واضحة من المالكي بأنه هو الرجل القوي الصالح لحكم العراق الآن، لذا فهو يتمسك بكرسيه، وليس لديه رغبة بالتخلّي عنه، رغم ما تقوله نتائج الانتخابات الأخيرة، ورغم التحذيرات الأميركية المختلفة له. فهل يحتاج العراق الآن إلى ثورة شعبية-عسكرية، تطيح بالدكتاتورية الجديدة؟الديمقراطية كمؤشر على المجتمع المدنييقول لنا فالح عبدالجبار في كتابه "المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب" إن أحد الأسباب الرئيسة لأزمة عراق ما بعد الحرب (2003) هو العثرات، والعقبات، والانهيارات، التي ضربت المجتمع المدني في العراق، فيما لو علمنا أن المجتمع المدني، هو الذي يقيم الديمقراطية ويحميها، ومن دون المجتمع المدني في أي دولة من الدول، من الصعب أن تُمارس الديمقراطية بشفافية كبيرة. ففي العهد الملكي، مورس القمع السياسي، "مما دفع المؤسسات السياسية والأحزاب إلى العمل السري خارج المؤسسات الدستورية، وأدى هذا تدريجياً إلى تآكل شرعية السياسة الرسمية للنظام الملكي. كما أن تفاقم حرمان الطبقات الحديثة (الوسطى والعاملة في المدن، والفلاحين المعدمين في الريف) من حقوقها الدستورية والسياسية، وزيادة تركز الثروات عند طبقة عليا قليلة العدد، تطور إلى انشقاق اجتماعي- سياسي، لا رجاء في إصلاحه، مما قضى على ديمقراطية تعددية دستورية، كانت فاعلة في وقت من الأوقات".جذور وخلفيات ما يحدث الآنوبعد زوال الملكية، توالت على الحكم ثلاثة أنظمة عسكرية (1958-1968). ثم حكم البعث العراق بنظام أكثر صرامة وقسوة وطغياناً من هذه الأنظمة العسكرية الثلاثة، وفي هذه الفترة لم ترَ الديمقراطية في العراق النور، كما كانت الحداثة السياسية، والثقافية، والاجتماعية، مُغيَّبة تماماً نتيجة لانهيار المجتمع المدني، الذي هو أساس التطبيق الديمقراطي والحداثة. ففي الفترة من 1958 - 2003، تم القضاء على كثير من أركان وأسس المجتمع المدني بطرق شتى، وأساليب مختلفة. فمثلاً "أدت النزعات التنموية أو الاشتراكية التي تمحورت حول الدولة كقوة أساسية للتحديث إلى تشويه المجتمع المدني أو تفكيكه، وامتصاص بعض عناصره، أو حتى تدميره. فتهاوى المجتمع المدني في بعض الأحيان إلى دائرة الأفكار الخاصة، التي تكمن في مخيلة الفرد، ففي السياسة أُلغي فصل السلطات، وتعطل البرلمان (1958-1980 ) وبعدها تمَّت انتخابات حكومية موجَّهة، وفقد القضاء استقلاله، وتمَّ توجيه ضربات قاصمة إلى مُلاّك الأراضي وأصحاب رؤوس الأموال. وتمَّ تأميم %40 من الشركات الكبيرة، وامتلكت الدولة %83 من الشركات المهمة، في 1980.شخصنة السلطة بطوطم واحد! وهذه العوامل مجتمعةً، قضت نهائياً على أي مظهر من مظاهر المجتمع المدني، حين أصبحت الدولة هي الحاكمة، والمالكة، والقائلة، والكاتبة، والفاعلة، والمنجزة، والرابحة، والأولى، والأخيرة. "بحيث انتهى الأمر إلى شخصنة السلطة؛ أي حصرها وتجسيدها في إهاب شخص واحد". كما يقول فالح عبدالجبار (ص 21). ولم يعد لأي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني دور في بناء حصاة واحدة في المجتمع العراقي. وولِدَ العراق الجديد، صباح التاسع من إبريل 2003، على هذه الأرضية.فلنتصور، ولنتخيل، كيف يكون البناء عليها في الأيام القادمة؟!هذا ما نشاهده الآن في العراق!* كاتب أردني