خير تعبير يَصِفُ وليد جنبلاط ومواقفه السياسة المتقلبة هو كلمة باللغة الإنكليزية (ENIGMA)، هذه الكلمة جامعة شاملة لمختلف المتناقضات، من عدم الثبات على موقف، إلى الشخصية التي تثير التساؤل والحيرة والجدل، إلى عوامل نفسية معقدة.

Ad

ووليد جنبلاط كما عرفته وعرفه أصدقاؤه المقربون هو خليط من الفكر الإنساني يصل في بعض الإحيان إلى درجة التنسك، ومن الفهم السياسي العميق يرتقي معها إلى قراءة الغيب، ومن السرعة في التصرف حيث يقفز من الشرق إلى الغرب متعدياً في أحيان كثيرة سرعة الضوء. كذلك فهو مزاجي يحكم على الأشياء من ظواهرها، ويتخذ قرار الحرب والسلم والحب والكراهية نتيجة تقلّب المزاج، لكنه سرعان ما يعود إلى صفاء ذاته ويضعها في قفص الاتهام ويحاكمها ويصدر حكمه القاسي على نفسه ثم يباشر تنفيذ العقوبة. وبين هذه الصفات وتلك يظهر عامل الانتهازية في تصرفاته السياسية والاجتماعية الخاصة والعامة. غير أن ما يميزه عن غيره من السياسيين سرعة الاعتراف بأخطائه، والسعي الدؤوب إلى محاولة إصلاحه، يساعده في ذلك قناعته الراسخة بأن الكرة الأرضية تتوقف عن الدوران إذا ما غاب عن المسرح. وفي هذا شيء من الغرور الممزوج بالأنانية. ولأنه يملك هذه الصفات، فإنه دائماً متهم بالتشكيك في مواقفه السياسية وغيرها، مع العلم أنه يتخذ هذه المواقف بناءً على قناعة وإيمان وليس لإرضاء الغير. ذلك أن هذه القناعة وذاك الإيمان معرضان للتغير في كل يوم أو في كل شهر أو في كل سنة على أبعد تقدير.

إن عقدة الأب كمال جنبلاط شيء مهم في توجيه مسيرة حياته، فهو يكره الأب عندما لا يستطيع أن يصل إلى مستواه، ويعبده عندما يتفوق عليه، وهذا ما يفسّر صراعه الدائم مع نفسه، وبالتالي تقلبات مواقفه السياسية وعدم استقراره على موقف دائم. غير أن ما يميّزه عن أبيه كونه «لاعب بوكر سياسي» من الدرجة الأولى؛ تلك الصفة التي افتقدها الأب طيلة حياته السياسية. ومن قواعد هذه اللعبة ضرورة «البلف» لتحقيق الربح، وسرعة الانسحاب لتحديد الخسارة، وهدفه الأساسي أن يبقى مشاركاً في اللعب أطول فترة ممكنة، لأن الخروج يعني الإفلاس، والإفلاس هو النهاية.

أمام وليد جنبلاط اليوم فرصة لا تعوض لاستعادة بعض من إرثه السياسي الذي تركه له والده كمال جنبلاط، فالأب، قبل أن تنال منه يد الغدر البائسة في أواخر السبعينيات، ترك رصيداً سياسياً هائلاً لخليفته وابنه الوحيد وليد؛ ترك له زعامة درزية لا تنازُع عليها، وزعامة لبنانية كاملة متكاملة، وكلمة مسموعة ومحترمة في الشرق العربي من محيطه إلى خليجه، ثم اسماً طناناً رناناً مليئاً بالوقار والاعجاب في أنحاء العالم حتى الخصوم كانوا يكنّون له الإجلال من دون المحبة. غير أن الابن، بسياساته الخاطئة الماضية، قد أنفق رصيده الدولي والعربي واللبناني إلى أن وصل اليوم إلى نصف زعيم درزي. فبينما كان الأب يأمر فيستجاب، أصبح الابن ينفذ سياسات خصومه التقليديين. وما حدث في مرحلة تشكيل لائحته الانتخابية في مركز زعامة أبيه في الشوف خير دليل على صحة هذا القول. فقد اعترف شخصياً بأنه كان قليل الحيلة في اختيار رفاق دربه الانتخابي حيث تخلى عن الأصدقاء القدامى وعن رموز الجنبلاطية السياسية لأن «ضغط» حلفائه الجدد ومصالحهم الانتخابية والسياسية تفوقت على رغباته. بينما كان كمال الأب يخوض معارك طاحنة من أجل انتخاب رئيس بلدية أو مختار من مؤيديه في أي بقعة جغرافية لبنانية. وقبيل إجراء الانتخابات الأخيرة قال جنبلاط كلاماً كبيراً في السرّ أمام مجموعة من المشايخ الدروز، ثم أردفه بكلام علني خلاصته ان ما بعد انتهاء الانتخابات هو يوم آخر وحديث آخر ونهج آخر.

غير أن الذين عاصروا مواقف وليد منذ مقتل رفيق الحريري فقدوا جزءاً لا بأس به من مصداقيتهم لما يقول ولما يفعل، نظراً إلى تقلبات مواقفه التي تدل على فقدانه الثقة بالآخرين، وربما بنفسه أيضاً. إن تحليل شخصية وليد بحاجة إلى مجموعة مرموقة من علماء النفس العالميين، كما يقول خصومه. لكن الذين يعرفونه والذين عايشوه عن قرب يهزؤون بهذا الاستنتاج، ويردون عليه بأن تقلبات الابن ليست وليدة المزاج أو غيره من المؤثرات النفسية، بل هي نابعة أولاً وأخيراً، بالأمس واليوم وغداً، من نشأته القبلية التي لا تُنـْسى ولا تـُسامح (بالرغم من أنه يدعي العكس) خاصة أولئك الذين خططوا واشتركوا في اغتيال مثله الأعلى في الحياة والده كمال بك. أولئك الذين عايشوه- ومازالوا- عن قرب، وساروا مع نهجه دروب الشر والخير معاً يؤكدون أن وليد تتملكه رغبة الانتقام المتأصلة على الطريقة العشائرية وبالتالي فإنه يُسخـّر كل إمكاناته السياسية لإرضاء رغبة الانتقام هذه خاصة من القتلة الذين مازال يشير إليهم بأصابع الاتهام، في الليل وفي النهار، وفي كل المناسبات. وبين الفينة والأخرى يُخرج من ذاكرته بعض التفاصيل المزودة بالإثباتات وبالأدلة الدامغة على أن دمشق هي التي خططت عملية القتل وأشرفت على تنفيذها.

وللدلالة على صحة هذا الزعم أروي حواراً قصيراً دار بين وليد وبيني في بغداد وفي فندق بغداد بالتحديد، بعد 40 يوماً من اغتيال كمال جنبلاط. فقد زار وليد دمشق في ذلك الوقت، ثم طار من هناك إلى بغداد تلبية لدعوة تلقاها من صدام حسين. وكانت تلك الزيارة وطيرانه من العاصمة السورية إلى العاصمة العراقية مباشرة إشارة تحدٍ للرئيس السوري السابق حافظ الأسد، بل رسالة واضحة الكلمات بأنه لم ينسَ ولن يسامح. في صالون الفندق الحضاري الوحيد الذي كان موجوداً في بغداد آنذاك، جلسنا معاً. قلت له: هل يعقل يا وليد بك أن تزور من تتهمهم بقتل كمال بك قبل الاحتفال بمرور 40 يوماً على غيابه؟ وكأنني بهذا التساؤل «البريء» قد أصبت سهماً مباشر إلى قلب الوليد فقال بعفوية يشوبها الكثير من الانفعال الظاهر: «أنا مستعد أن أزور جهنم إذا كان ذلك يؤدي في المدى القريب أو البعيد إلى الانتقام من القتلة». وكان وليد وفياً لتعهده هذا فسار على الدرب الدمشقي طيلة ثلاثين سنة، واضعاً الإصبع على جرحه العميق، وعندما سنحت له الفرصة، بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، عادت إليه غريزة الانتقام. واليوم يتوق جنبلاط إلى السير مجدداً على دروب العاصمة السورية حتى لا يضطر إلى الانسحاب من «لعبة البوكر» السياسي، لكنه إذا «سامح» فإنه لن ينسى. ويغيب عن بال زعيم المختارة أن ذاكرة دمشق مشهود لها باليقظة الدائمة وبعدم النسيان هي الأخرى، وقد تتناسى ما فعله وما قاله وليد في وقت لم يمرّ عليه الزمن، لكنها لن تنسى أن غريزة الانتقام في المجتمع العشائري، في دمشق وفي المختارة، متوارثة بما يدفع دمشق إلى أخذ الكثير من الحيطة والحذر عندما تفتح ذراعيها مجدداً إلى «أمير الانتقام» الجنبلاطي.

إن وليد جنبلاط اليوم في موقف سياسي حصين لم يصل اليه والده من قبله. فبالرغم من خسارته للانتخابات (لأنه لم يربحها كما يريد ويتمنى) فإنه يمسك بزمام قرار «الحرب والسلم» الأهلي في لبنان. فانعطافه السياسي اللانهائي نحو المعارضة منحه قدرة الإمساك بالسياسة اللبنانية من قرنيها، وبالتالي توجيه «ثورها الهائج» إلى حيث يريد.. ولعبة «البوكر» السياسي الجديدة بينه وبين دمشق مازالت في بدايتها، وكذلك الأمر مع خصومه ومع حلفائه السياسيين على السواء. فماذا تخبئ الأيام للوليد الجنبلاطي؟

نصيحة إلى كل الذين يضعهم القدر في طريق وليد جنبلاط: اقرأ تلك الكلمات.