كنت شاباً في مقتبل العمر حين ارتبكت الجبهة الشرقية للبلاد في مطلع الثمانينيات، وبدأت الحرب العراقية الإيرانية أو ما عرف يومها بحرب الخليج قبل أن تتغير تسميتها الى حرب الخليج الأولى، وهي تسمية فرضتها حرب الخليج الثانية، أو ما يتعارف عليه بحرب تحرير الكويت من الغزو العراقي البغيض. منذ ذلك التاريخ بدأنا نعي، نحن جيل ذلك الزمن، أن الهدوء أصبح مطلباً من الصعوبة بمكان تلبيته.

Ad

في الرياض التقيت صحافياً كندياً قادماً من الكويت بعد انتهاء الحرب وتحرير الكويت، سألني الرجل سؤالاً بسيطاً "هل انتهت الحرب؟" قلت ببساطة: نعم انتهت الحرب وسنعود الى بلادنا، قال لي: "أنا لا أعتقد أنكم تفهمون ما يجري"، وأكمل: "لقد بدأت الحرب الآن"، قال وكأنه يقرأ كتاباً مفتوحاً على المستقبل: "سيبقى صدام عشرة أعوام قادمة وبعدها ستشتعل جبهة ايران". وفي ذلك العام وفي تلك الظروف كان هذا كلاماً عبثياً بالنسبة إلي. بقي صدام عامين إضافيين فقط بناء على حسابات الرجل، وها هي الجبهة الشرقية تشتعل ولا يعلم أحد متى تصل الى قمة الانفجار.

منذ لقاء الرجل حتى الآن نجحنا في بناء وإعادة إعمار الوطن، وتناسينا إعادة إعمار الإنسان حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم. فلا ثقافة في الحوار ولا عقل في تباين الرأي، واحتلت الحنجرة والعاطفة موقع العقل. بعد التحرير كانت ردة فعلنا الثقافية آنية، وحاولت جميع فئات المجتمع أن تبحث عن تأسيس جديد لمواقعها، في محاولة لفرض هيمنتها على الآخر. اختلطت أوراقنا التربوية والتعليمية والاعلامية، ولم يعترف أحد بأننا فشلنا في تهيئة العنصر البشري لمواجهة أي تحديات قادمة، وكأن الأمر لا يعنينا.

الجبهة الشرقية لم تتغير كثيرا والدروس التي بين أيدينا منذ حرب الخليج الأولى ما زالت ككتب الطالب الخائب تحت الوسادة، ونحن أقرب الى الفرقة منا الى الوحدة. نتحدث عن أموال طائلة لبناء كويت جديدة تستعيد بهاءها ولونها السابق للحربين، ولا نتحدث عن القليل القليل لدعم إيمان المواطن بوطنه، وبناء ثقته بمؤسساته الرسمية والأهلية. علينا أن نقرأ جيداً سبب انتشار ثقافة التشكيك والعداء، وأن نتلمس الواقع القادم ونحن في منطقة من العالم أصبح قدرها أن تشتعل في كل عقد من الزمن وفي أقل من ذلك.

سيقول الكثيرون إن تجربة الغزو والتحرير شهدت ترابطاً اجتماعياً واتفاقاً بين أطياف المجتمع، ولكن يبدو أن ذلك كان آنياً وإلا فبماذا نفسر هذا التنافر الاجتماعي، لماذا ينجح شخص ما، مهما كان وزنه، في بعثرة أوراقنا؟ لماذا ينجح برنامج إعلامي، حتى وإن كنا نختلف معه، في إثارة نعراتنا الطائفية والقبلية والطبقية الكامنة؟ نحن في حاجة الى مؤتمر داخلي ضخم يجلس الى طاولته جميع المفكرين، إذا بقي منهم صوت مسموع، لنقاش القادم الذي أرى أنه أخطر وأعظم مما مر علينا. علينا أن نخرج بكتاب سنة أولى تربية وطنية واجتماعية. نعم نحن نمتلك العقول التي تستطيع إعادة الثقة إلى الإنسان بنفسه بعد هذه الهزات غير المبررة، ونمتلك الإمكانات لذلك ولا نحتاج سوى العزيمة. العزيمة فقط.

وأكثر من ذلك نحتاج إلى الصحافي الكندي الذي لم يكن منجماً أو قارئاً للغيب، وإنما كان يقرأ جبهاتنا بشكل علمي ودقيق. وأنا لن أقول كما قال الربعي رحمه الله: تفاءلوا فالكويت جميلة، وإنما أقول اعملوا لتبقى الكويت جميلة.