فيصل لعيبي: أرسم الشخوص العراقية حليقة الرأس لأنها رمز الطهارة والفقر
فيصل لعيبي فنان عراقي ولد في مدينة البصرة عام 1945، نشأ وترعرع هناك، ثم حصل على دبلوم الرسم من أكاديمية الفنون الجميلة جامعة بغداد، غادر العراق عام 1975 إلى باريس، وهناك تعلم ونهل من مبدعيها وفنانيها، ثم انتقل بعد سبع سنوات إلى إيطاليا ليستزيد منها الكثير، وانتقل أخيراً إلى العاصمة البريطانية ليستقر بها، لعيبي فنان يبحث باستمرار عن الذات العراقية، ويحمل بداخله هموم وطن وشعب، ولديه تفاؤل كبير بأن التغيير في العراق سيحقق الكثير من الإنجازات، ولكن ليس اليوم وإنما على مدى أبعد، يزور الكويت هذه الأيام من أجل معرضه الشخصي الـ16، التقيناه ودار معه هذا الحوار.
حبذا لو نأخذ فكرة عن معرضك في الكويت؟
هذا معرضي الشخصي السادس عشر، والأول في الكويت أقيمه بدعوة كريمة من جواد بوشهري ويحيى سويلم مدير قاعة بوشهري، حاولت أن أقدم من خلاله خليطا يمتزج بداخلي الفني، إضافة إلى تجربتي خلال خمسين عاما، ويحمل اسم "جماليات"، وله علاقة بجماليات المكان العراقي، والإنسان العراقي، فأنا مأخوذ بهذه الجماليات، وأحاول من خلال هذه الجماليات أن أقدم شيئا للجمهور في 30 لوحة تقريبا، وحاولت أن أقدم شيئاً جميلاً عن العراق على عكس ما تنقله بعض الفضائيات من صورة سيئة ودموية، بل البعض منها يلجأ إلى الفبركة كي يخدم غرضا في نفس يعقوب، لكنها أصبحت مفهومة ومعروفة عند المواطن العراقي، لأن هذه الفضائيات تتبع جهات معينة ليس من مصلحتها أن يحدث هذا التغيير في العراق، وتخاف منه تماما، وعلى فكرة أصحاب تلك الفضائيات هم الذين يرسلون لنا التفجيرات، وقبل أن يحدث الانفجار تبث هي الخبر لأن الخطة موجودة لديهم. كذلك هناك عدد من بقايا النظام الذي يأسف على الأيام الخوالي ويشده الحنين لتلك الأيام، فيفعل ما يفعل وينخرط في جماعات إرهابية أو يساعد في تفجير العراق.كيف تجد الفنان التشكيلي العراقي المغترب في الخارج؟الفنان العراقي أو المثقف العراقي عموما أجد موقفه إيجابيا، وكان عاكسا للدراما العراقية، وكان أمينا وصادقا في كل ما قدمه للمشاهد الغربي، عكس ما كان مطروحا أيام النظام السابق من فن له علاقة بـ "البروباغاندا" أكثر من أنه له علاقة بالثقافة والمعرفة، لذا كان دوره ايجابيا لا يقاس، لكن أيضا وفي الوقت نفسه كان هناك تعتيم على ذلك، فنجد الكثير من الصحافة العربية لا تهتم بدور هذا المثقف العراقي ونتاجاته، وتتجنب حتى الخوض في مساءلاته أو تقديمه، والسبب هو هيمنة النظام السابق على وسائل الإعلام، ونجد الكثير منها مشتراة من قبله ومدفوع لها، وحتى الصحف التي تصدر داخل الوطن العربي لم تنصف المثقف العراقي، وتنظر اليه نظرة بها ريبة وتخوين بسبب موقفه من النظام السابق، وهي أنظمة متضامنة مع بعضها البعض لأنها تسير على نفس النهج ونفس الطريق.والمثقف العراقي والعربي كذلك مثقف جدلي يطرح أسئلة ويثير مشاكل، لذا هم لا يفضلون هذا النوع من المثقفين، ولهذا تبتعد عنه الصحافة المأجورة للأنظمة، فهو من جانب إيجابي وفاعل ويقدم مأساة العراق بشكل صحيح وجاد وعميق فنيا، ومن الجانب الآخر مهمل من قبل الإعلام العربي، أما الإعلام الأوروبي فعلى العكس يتقبلونه ويحتفون به على قدر الإمكان وعلى قدر ذكائه، ولحسن حظ العراقيين في الخارج انهم استطاعوا أن يظهروا أنفسهم من خلال رابطة الكتاب والصحافيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين في الخارج، وكانت لديهم مجلة فصلية بعنوان "البديل" تخدم أعمالهم وقضاياهم الفكرية، وهذه لعبت دورا حيويا ومهما منذ الثمانينيات حتى التسعينيات، بعدها تفرق المثقفون وظهرت إشكالات أخرى لها علاقة بالسياسة أكثر من الفن والثقافة فتفككت أواصرها. لماذا ينأى الفنان عن السياسة ويبتعد عنها لكنها تلاحقه أينما كان؟إشكالية الالتزام بالثقافة والفن هناك من يعتبرها عيبا من عيوب الثقافة، بينما في الحقيقة لا يوجد هذا الشيء، فكل ثقافة بها هذا الوعي السياسي بمعناه الرفيع وليس الصراع الحزبي الذي أدى بالسياب الى شتم رفاقه، فأنا لا أقصد هذا بل أقصد الارتقاء بالفن الذي لا ينفصل عن معاناة الإنسان الذي لا ينفصل عن بيئته ومجتمعه وعن علاقاته السياسية، والاقتصادية والجغرافية والبيئية، ويعتمد كل ذلك على الوعي والثقافة، فمثلا جورنيكا عمل سياسي، نصب الحرية لجواد سليم عمل سياسي، نهضة مصر لمحمود مختار عمل سياسي فهي جميعها أعمال راقية جدا، وبالنسبة إلي أنا أرى أن كل عمل يقدمه الفنان لابد أن يحمل سياسة في داخله، وحتى البعد بالذات بعيدا عن السياسة أجده موقفا سياسيا ولكن بشكل آخر.وكل حركات الفن الأوروبي من السريالية، الدادائية، الرمزية، والحديثة الآن نجدها مبنية على المعرفة والموقف السياسي، لكن ربما في التسعينيات خف الضغط على المثقف والأنظمة الشمولية بدأت تضعف، وانهيار المعسكر الاشتراكي أظهر حقائق جديدة كالمثقف المتعصب لجهة معينة واجه الجدار ولم يجد أمامه سوى تحطيم ذلك الجدار والانطلاق، لذا نتلمس أن هناك حيوية جديدة لها إيجابياتها. أنت كفنان كم لمست قساوة النظام السابق حتى وأنت خارج حدود وطنك؟ هذه الخبرة التي لدي للأسف بقيت بعيدة عن متناول استخدام من هم في وطني من الأجيال الجديدة، وهذه خسارة كبيرة جدا، أيضا كنت أطمح كأي مواطن عراقي إلى أن يكون عندي بيت وبه حديقة جميلة أرتبها حسب فكري، وأن يكون لدي مرسم أو استديو أمارس فيه فني، وأنا الى الآن لا أمتلك أي شيء من هذه الأشياء، لكن الايجابيات بالنسبة إلي كانت أكثر من خلال تجربتي في المنفى، فاستفدت من الغربة، وابتعادي عن وطني جعلني أفكر في ذاتي وأراجع خبراتي وقدراتي وتجربتي، وأضيف من هذا المحيط الغني والعميق والمتعدد المشارب في محطات المنفى الى نفسي وأثريها بالنتاج.ماذا أخذت معك من مدينتك البصرة؟أخذت معي كل العراق وحملته بداخلي، والدليل تللك الصور التي بقيت محفورة وخالدة في ذاكرتي من الواقع العراقي الذي عشته، فأنا كغائب طعمة فرمان، الذي لم يكتب في غربته إلا عن بغداد، أنا كذلك في الرسم بقي الإنسان العراقي هو هاجسي وبطل لوحاتي، ولن يختفي أبدا طالما هناك نفس في صدري. لماذا لم تعط الحركة التشكيلية في عموم الوطن العربي اهتماما أكبر، مقارنة بالرياضة وتحديدا كرة القدم؟ المؤسسات الحكومية وعدم اهتمامها بهذا الجانب الفني الحيوي، وغياب استراتيجيتها في هذا المجال، كذلك مناهجنا مناهج غربية، ولم يتولد لدينا ذلك البحث الحقيقي والجدي بالبيئة والتراث والثقافة المحلية، والفنانون الذين نقول عنهم إنهم عالميون هم بالحقيقة ليسوا عالميين، على سبيل المثال بيكاسو هو فنان اسباني وحياته التي قضاها في باريس مرتبطة باسبانيا، ويتضح ذلك جليا من خلال أعماله ولوحاته التي تعكس الثور، والخطوط العنيفة التي تعكس روحية الإسباني القريبة من روحيتنا في البحر الأبيض المتوسط، والتي تحمل روح الفوضوية والتنقلات السريعة في المزاج كل ذلك كان منعكسا في أعماله وهو في باريس، فهو فنان اسباني شمولي، الإعلام جعل منه عالميا، وبيكاسو كتب عنه 120 كتابا، بينما جواد سليم كتب عنه فقط في ثلاثة كتب، أما المبدع فايق حسن فلا يوجد أي كتاب عنه أو عن حياته، هذا بالنسبة إلى العراقيين، كذلك الوضع ينطبق على المبدعين المصريين وعلى مبدعي شمال إفريقيا، وإن كتب أي شيء فهي لا تتعدى كراريس صغيرة جدا وبها حس نقدي، كذلك غياب المدرسة النقدية الصحيحة لها دور كبير في عالمنا العربي، أضف الى كل ذلك صراع الأجيال الكبير بين فنانينا.كيف تقرأ الحركة التشكيلية العراقية الحالية؟أنا متابع للحركة التشكيلية في الداخل، وأجد بهم روح المثابرة والثبات رغم كل الظروف الصعبة المحيطة بهم، لكنهم يسيرون وفق خطى مدروسة ولديهم أعمال جيدة تبشر بالخير، لكن المأخذ الوحيد عليهم هو أنهم أيضا أجدهم خاضعين للتجارب الغربية، ولم يستنبطوا نتاجهم وخبرتهم الفنية من التراث الفني المعرفي والثقافي التشكيلي من الوطن العربي أو من العراق الذي مرت عليه خمس حضارات هي: السومرية، الآكدية، البابلية، الآشورية، الإسلامية. ولما صارت الدولة الأموية في سورية كانت عادية، لكن عندما تحولت الى بغداد أصبحت بشكل آخر، حيث نمت وترعرعت، خصوصا أن العراق يمتلك أرضا خصبة تماما وثرية، وبالتالي لابد أن يستفيد الفنان التشكيلي من ذلك، هذا هو خوفي الوحيد على الجيل الجديد، والرسم العراقي بدأ بداية صحيحة على اللوحة التي تحمل الحداثة عند فايق حسن، واللوحة التي لها علاقة بالتراث والمعاصرة عند جواد سليم، واللوحة ذات الموضوع والمضمون الاجتماعي العميق عند محمود صبري، فهؤلاء الثلاثة هم المثلث الذهبي بالرسم العراقي، إذ أرسوا لوحة ذات قيمة تطبق على كل الأعمال الفنية التي تحمل الحداثة والبيئة والفكر المعاصر الحديث الملتزم الإنساني التقدمي، كل هذه القاعدة السليمة نجدها في الأعمال العراقية كيف تنظر إلى انعكاسات مرحلة التغيير الراهن في العراق على الفن؟ الحركة الفنية العراقية عندما يلتقي الخارج بالداخل أتوقع حتما ستقدم شيئا، ولكن ليس على طريقة ما طرح لفترة نعرة عراقيي الداخل وعراقيي الخارج، هذا كلام غير صحيح وغير منطقي أساسا لأننا امتداد للداخل وهم أساسا أهلنا وأصدقاؤنا و"حبايبنا"، ونحن لسنا متعالين على نتاج عالي المستوى نجده في الداخل بل نتعلم منه ويضيف لنا شيئا جديدا، فلو صار هذا التعانق وهذا التلاقي وهذا التزاوج بين نتاج الخارج والداخل فحتما سيضيف الكثير إلى الحركة التشكيلية العراقية. كيف تنظر إلى الواقع العراقي الجديد والتغيير الذي حدث؟أنا متفائل بطبعي، وأعتقد أن الواقع العراقي يبشر بخير رغم كل المنغصات التي نسمع بها من حكايات وقصص تمخضت عن التجربة، وهم يرددون الاحتلال، ووجود ما يسمى بالمقاومة، أنا أعتقد أن المواطن العراقي اليوم فهم اللعبة وتنبه لأطماع من حوله، والعراق بطبعه واع تماما، وهذه المرحلة هي مرحلة انتقالية بها غربلة كبيرة مثلما حدث في أوروبا بعد الاحتلال النازي، فهي أيضا خضعت لقوات الحلفاء لفترة، لكن القوى الخيرة داخل المجتمعات الأوروبية كفرنسا، وألمانيا صنعت نفسها من خلال الانتخابات والبرلمان، وبالتالي خرجت الدول من عنق الزجاجة، وربما يؤثر العراق إيجابا على المحيط به فلم نستبعد ما يحدث في إيران من خروج المعارضة وتمزيق صور رموزهم الدينية، وهذا امتداد لما حدث في العراق من إسقاط للصنم. لننتقل الى محطة أخرى من محطات حياتك ألا وهي الكتابة، هل لم تشبعك الريشة فلجأت الى القلم، وكان آخر نتاج لك كتاب "البحث عن الذات"؟ الفن هو لغة فأحيانا يتحول الى صوتي أو كتابي أو موسيقي، فأي الوسائل التعبيرية المتعلقة بالفن قادرة على ايصال الفكرة يمكن استخدامها، ولا يوجد فرق كبير بين الاثنين، وإن كنت أنا معروفا أكثر على مستوى الرسم والتشكيل، لكن هذا لا يمنع أن أكتب أحيانا خاطرة صغيرة أجدها أقرب إلي من اللوحة في الحالة التي أمر بها في حينها، فالكتابة وسيلة من وسائل التعبير عندي، وقد تكون فاشلة أو ليست بالمستوى، لكن هي عبرت عما أنا به من حالة، وبمناسبة كتاب البحث عن الذات هو كتاب فني عبارة عن تجربة خمسين عاما من حياتي لم أكتب به شيئا، وإنما آراء كتاب ونقاد عرب وأجانب يتناولون أعمالي مع صور لتلك الأعمال، ولدي كتابات في مواقع عراقية وصحف عراقية لا أكثر ولا أقل.سؤالي الأخير، هو أن الله خلق للعراقيين شعرا جميلا جدا، إلا أنك ترسم كل الوجوه العراقية وهي حليقة الرأس، ترى لماذا؟الأصل هو الرأس السومري وخصوصا رجال المعبد يكونون حليقي الرأس ما عدا النساء طبعا، وهذا يعكس في الحضارة السومرية الطهارة، الشيء الثاني هو شكل الرأس من غير شعر يعطي جمالية بسبب استدارته وشكله، والشيء الثالث هو أن الفقراء في العراق دائما يكونون حليقي الرأس حتى لا يكلفهم مصروف شهري لحلاقة الرأس فيحلقونه "على الصفر" كي يبقى أكثر من ثلاثة أشهر، وأنا كنت من بيئة فقيرة جدا لدرجة كانت والدتي أحيانا تغسل رأسنا بالنفط خوفا من الأمراض ومن الزواحف، فطفولتي كلها كانت حليقة الرأس حتى أظل نظيفا، كذلك الحجاج يحلقون رؤوسهم عند بدء موسم الحج، وهو دليل العفة والطهارة والنظافة، وأنا أرسم شخوصي بهذا الشكل وخصوصا العاملين في وظائف بسيطة مثل الباعة المتجولين لأنهم من بيئة فقيرة جدا.