انتخابات لبنان: دلالات ومؤشرات

نشر في 15-06-2009
آخر تحديث 15-06-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري دماء الشهيد الحريري لم تذهب هدراً، بقيت تغذي وتروي أرض لبنان العطشى حياة وأملا ونوراً وعزماً، ها هي قوى «14 آذار» تحقق انتصاراً تاريخياً في الانتخابات اللبنانية وتفوز بأكثرية مقاعد البرلمان الـ128 بحصولها على 78 مقعداً في مقابل 58 مقعداً للمعارضة (قوى 8 آذار).

اللبنانيون شعب حيوي عريق في الحرية، يحب الحياة ومباهجها ويعشق بلاده ويتغنى بجمالها، هذا الشعب الأبي تحدى الصعاب وأعاد إعمار بلاده مرتين بعد تخريبها وانتصر لإرادة الحياة ولحرية الوطن وكرامته وأمنه وسيادته، لم ينخدع بباعة الأوهام والشعارات، ولم يخضع لتهديدات تجار الموت والانتحار الذين نصبوا أنفسهم سلطة متعالية على سلطة الدولة، واستقووا بسلاحهم الذي فقد صلاحيته الشرعية وفرضوا أنفسهم أوصياء على الوطنية والمقاومة، ووزعوا صكوك الخيانة والعمالة ضد رموز وقوى الأكثرية الوطنية.

انتفض الشعب اللبناني وقال: لا لخطاب التخوين، لا للشعارات الجوفاء، لا لثقافة البؤس والانتحار لا لسياسة الاحتكام إلى السلاح، إنها إرادة الشعب اللبناني التي انتصرت لقوى البناء والإعمار والتنمية والإنتاج، وللعقل والحرية وللاعتدال وبناء الدولة الوطنية.

لقد حقق هذا الانتصار ارتياحاً كبيراً ساد الأوساط العربية والدولية، إذ جنب لبنان مصيراً غامضاً مضطرباً، ورحبت دول العالم بنتائج الانتخابات، وهنأت اللبنانيين بديمقراطيتهم، ومن حق الأغلبية اليوم أن تحتفل بفوزها، فقد أثبتت أنها أغلبية حقيقية لا كما ادعت المعارضة، لكن الفوز يرتب مسؤوليات واستحقاقات على الأكثرية وعلى الأقلية، يجب استيعابها واحترامها، وقد أحسن الحريري، مهندس هذا الانتصار بقوله إنه يمد يده للجميع لبناء لبنان الغد على قاعدة الشراكة، دعونا نستعرض أبرز دلالات ومؤشرات هذه الانتخابات:

1- استمرار مسلسل سقوط طروحات وشعارات جماعات الإسلام السياسي وتراجعها، وتصاعد خسارتها الانتخابية بدءاً بمصر ومرورا بالأردن وفلسطين والكويت، حيث خسر الإسلاميون معظم مقاعدهم وسقطت مقولة: إن الإسلاميين يفوزون بالأغلبية في الانتخابات الحرة، لقد ثبت زيفها، وكانت المعارضة بقيادة «حزب الله» تدعي أنها الأكثرية، وأن قوى «14 آذار» (أكثرية مزيفة) وكانت تنشر الاستطلاعات المؤيدة لانتصارها، لكن اللبنانيين ضاقوا بسياسات «حزب الله» وساءتهم تصريحات الأمين العام للحزب عندما أعلن أن 7 مايو كان يوماً مجيداً في تاريخ المقاومة، مع أنه كان يوماً استباحت فيه قواته بيروت وسئمت الجماهير العربية تلك الشعارات التي لم تطعم جائعاً، ولم تحم وطناً ولم تحافظ على كرامة، ولم تحقق هدفاً، ولم تقدم حلاً، وضاقت الجماهير بحكم الإسلاميين الذين جروا الكوارث على مجتمعاتهم، ولم ينجحوا إلا في شيء واحد تكريس خطاب الكراهية والإقصاء والتخوين بين أبناء المجتمع الواحد، وشحن الجماهر للمواجهة والصدام مع الغرب عبر ترديد أسطوانة العداوة والتآمر العالمي على المسلمين، وما كان لهذا الخطاب الصدامي أن يستمر بعد أن أسقطه الشعب الأميركي باختياره رئيساً، أبوه مسلم وتربى في بيئه إسلامية، لا يكف عن تمجيد الإسلام والافتخار بالمسلمين الذين شاركوا في تأسيس أميركا، جاءهم بقلب مفتوح ويد ممدودة يطلب ودهم وبرسالة ملؤها المحبة والاحترام والفهم العميق لقضاياهم.

2- هزيمة المشروع الإيراني بلبنان: تصويت الشعب اللبناني لمصلحة قوى «14 آذار» هو تعبير صريح لرفضهم تحويل بلدهم إلى قاعدة إيرانية متقدمة، أو ساحة للمواجهة بين إيران وأميركا، فصوّت اللبنانيون للكيان الوطني المستقل ورفضوا سلخ بلدهم عن محيطه العربي أو الدولي، ولقد تعلموا الدرس ودفعوا ثمناً غالياً عندما جعل «حزب الله» من لبنان رهينة في مغامرته غير المحسوبة خدمةً لإيران، لذلك رفضوا هذه المرة رهن مصيرهم بإرادة خارجية.

3- سقوط حق الفيتو (الثلث المعطل): بعد حرب صيف 2006 تظاهر «حزب الله» واعتصم وسط بيروت بهدف تعطيل العمل الحكومي ومحاصرة مجلس النواب لمنع انتخاب رئيس الجمهورية، ثم اجتاحت ميليشياته بيروت واستباحتها في 7 مايو، وفرضت نفسها بقوة السلاح وأرهبت اللبنانيين، ولم تشأ الحكومة الانجرار إلى الفتنة المسلحة، وبوساطة من الدوحة أمكن جمع الفرقاء في مؤتمر المصالحة بالدوحة، حيث تم الاتفاق على انتخاب رئيس الجمهورية في مقابل إعطاء قوى «8 آذار» الثلث المعطل، لكن التجربة كانت فاشلة، إذ أسيء استخدام حق الفيتو وأسرف فيه وأصبح عقبة أمام المشاريع الحيوية في لبنان، واليوم بموجب التفويض الانتخابي الممنوح للأغلبية، من حقها رفض تلك المعادلة وتشكيل حكومة وحدة وطنية من دون هذا الثلث المعطل (ثلث الحكومة +1) عملاً بالدستور واتفاق الطائف، فضلاً عن أن بدعة الثلث المعطل لا تعرفها التقاليد الديمقراطية.

4- احتواء سلاح «حزب الله» ضمن الاستراتيجية الدفاعية للبنان: صرح نبيه بري عشية الانتخابات: إن هذه الانتخابات هي استفتاء على خط المقاومة، أي أن المعارضة إذا كسبت فمعناه أن الشعب اللبناني يريد بقاء سلاح المقاومة كما هي الحال اليوم خارج سلطة الدولة، وإذا فازت قوى «14 آذار» بالأغلبية فهذا معناه دمج سلاح «حزب الله» بسلاح الجيش، قرر الشعب اللبناني بأغلبيته ضرورة احتواء سلاح المقاومة ضمن سلاح الدولة، خصوصا أن هذا السلاح فقد مصداقيته وشرعيته، وانتفت مهمته بعد أن أصبح شوكة في ظهر اللبنانيين، وانقلب سلاحاً ضد المواطنين في الداخل، لقد أصبح هذا السلاح عبئاً على الحزب وعلى لبنان.

5- كسر احتكار الجنرال عون للزعامة المسيحية: لطالما اشتكى الجنرال عون من قانون انتخابات 2005 بحجة أن ضم الدوائر المسيحية إلى دوائر إسلامية أكبر حرمه الفوز فيها، وفي مؤتمر الدوحة استجيب لطلبه وتم تعديل القانون على أساس القضاء (الدائرة الصغيرة) لكن مفارقة الانتخابات الحالية أن عون ومرشحيه لم يفوزوا في الدوائر المسيحية الخالصة فيما عدا منطقة كسروان، أما في بقية الدوائر فقد سقطوا، وفي بعضها نجحوا بفضل الشيعة والأرمن، وهكذا تم رفض عون من قبل المسيحيين في المناطق المسيحية الصِّرف، وفي بيروت وفي مناطق السنة، وبذلك لن يستطيع عون اليوم أن يدعي الزعامة للمسيحيين كافة.

6- فشل سلاح الاغتيالات: كان من أهداف الاغتيالات تحويل قوى «14 آذار» من أكثرية إلى أقلية عبر اغتيال 3 نواب في المجلس السابق، لكنها صمدت وها هي اليوم تنتصر وتعيد الأكثرية كاملة.

7- تفويت فرصة الابتزاز الإسرائيلي: لعل من أهم نتائج الانتخابات الإسرائيلية أنها حرمت إسرائيل من فرصة ابتزاز الرئيس أوباما، فقد تمنت صحيفة يديعوت أحرونوت فوز «حزب الله» كذريعة لرفض مقترحات أوباما للسلام بحجة أنه صار في لبنان حكومة متطرفة كما تقول الكاتبة هدى الحسيني.

ويبقى أن نقول إن انتصار قوى «14 آذار»، يمثل انتصاراً للقوى الديمقراطية والمشروع الوطني ومستقبل لبنان وأمنه واستقراره، واللبنانيون إذ نصروها فإنهم اختاروا الدولة الوطنية ورفضوا الدويلة الطائفية، ويبقى على «حزب الله» وحلفائه أن يحسنوا قراءة نتائج هذه الانتخابات على ضوء الأوضاع الإقليمية، وفي ظل الإدارة الأميركية الجديدة التي تريد فتح صفحة جديدة مع كل من إيران وسورية، على هؤلاء جميعاً أن يحسنوا التصرف ويراجعوا مواقفهم وسياساتهم في مرحلة ما بعد الانتخابات، لأن نتائجها تبين بوضوح أن مكانة هؤلاء قد تراجعت لدى الجماهير اللبنانية والعربية عامة.

* كاتب قطري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top