أعجبني موضوع منشور في عدد قديم من مجلة "ريدرز دايجست" يعود تاريخه إلى عام 1947، الموضوع عبارة عن رسائل للقراء يروي كل منهم شيئا تعلمه عن والديه في الصغر، وبقي أثره ماثلا أمامه في الكبر، كلما استدعى الأمر ذلك، وهذه بعض الرسائل التي وردت من القراء للمجلة:

Ad

كتبت "مسز هورنج" تقول: كان الجدل سمة دائمة بين الشقيقين جون وإدوارد، وكان كل منهما يتهم الآخر بأنه على خطأ دائما، وذات يوم، سمع أبوهما صخب إحدى هذه المعارك الحامية، فدعاهما إلى مكتبه، وأجلس كلا منهما مواجها لأخيه، وأخذ إناءً أحمر من الزجاج رسمت على أحد جانبيه وردة بيضاء، ووضع الإناء في وسط المنضدة بينهما والتفت إلى جون قائلا: "خبرني ماذا ترى؟" فرد جون: "أرى إناءً أحمر" ثم التفت إلى إدوارد، وقال: "وأنت؟" فقال: "أرى إناءً أحمر عليه وردة بيضاء" فقال: "حسنا يا أبنائي... حسبكما هذا"! وفهم الغلامان ما أراد أبوهما، وهما اليوم يتذكران ذلك الإناء الأحمر كلما شجر بينهما خلاف في الرأي ينذر بأن ينقلب جدلا عنيفا، ليدركا مرة أخرى أن المسألة رهن بالزاوية التي يرى من خلالها كل منهما الأمر!

وكتبت بربارة بوردو تقول: كنت في العاشرة من عمري يوم تعرفت على صديقتي الحميمة، وتوثقت أواصر صداقتنا وصار لها في نفسي منزلة عظيمة، ولما كنت مفطورة على الاستئثار، ألفيت نفسي شديدة الغيرة من كل شيء تعنى به إن كان ليس لي فيه نصيب، ولم أخف عنها ما أحس، فأزعجها ذلك وتبرمت به، وذات يوم، كنت أنا وأمي نتفرج على بعض الفراخ الوليدة، فرفعت أحدها بيدي وشددت عليه حتى كاد يختنق، وقد جاهد أن يفلت من قبضتي حتى فعل، فقالت والدتي وكأنها غير عابئة بما حدث: "إذا شددت قبضتك على فرخ وليد عظمت رغبته في أن يفلت منك، فترفقي في حمله"، فلما أخذت الفرخ الثاني في راحتي المبسوطة اطمأن إلي وسكن، فقالت أمي: "يا ابنتي... الناس كالفراخ الصغيرة، كلما زدنا حرصا على تقييد من نحبهم، ازدادوا حرصا على طلب الفكاك والحرية، فإذا ترفقنا بهم، لم يشعروا منا بالضيق والسأم"... واليوم، كلما شعرت بالغيرة تستبد بي، تراءت لي صورة ذلك الفرخ المطمئن في كفي المفتوحة، ووقتني من أن أساير ما يعتلج في خاطري!

وكتب أ.ج.بوست يقول: كنت كغيري من الفتيان أقع فيما لا تحمد عقباه، ثم أعدو إلى أمي كي تنقذني منه، بيد أن أمي كانت تؤثر أن تراني أحل بنفسي ما أقع فيه من مشكلات، وكنت أعجب من تجاهلها لي، حتى جاء يوم رأيت فيه شرنقة فراشة تنبض وتتململ، فصحت فرحا بما توقعت رؤيته، فبادرت إلى الشرنقة أشقها بمبراتي حتى أيسر على الفراشة خروجها من الشرنقة، وإذا بأمي تراقب ما أفعل، فلما شققت الشرنقة ورأيت الفراشة لا تطير، ساورتني خيبة أمل قوية، فقالت أمي: يا بني... إن لجهاد الفراشة غرضا، هو أن يمكنها من اكتساب القوة التي تتيح لها التحليق فوق العالم الذي كانت تدب فيه، لكنك الآن بمساعدتك لها منعتها من أن تستكمل قوتها، وها هي لا تستطيع أن تمشي ولا أن تطير، وهذه حال الأولاد أيضا، فإذا لقي ولد مثلك من يحل له جميع مشكلاته، سلب منه الفرصة التي تتيح له النماء، وتأكد أن كل جهاد تخوض غماره اليوم سوف يعزز قدرتك على الجهاد الذي يليه! أما بيتر مورتي فقال: اعتادت شقيقتي الصغيرة أن تذيع أخبارا ملفقة عن أقرانها، فأفضى ذلك إلى كثير من الشقاق بيننا وبين جيراننا، رغم أنها لم تكن تقصد إيذاء أحد، وكان من عادتها كلما عنفتها أمي أن تقول: "أسألكم العفو... وأسترد ما جرى به لساني"، وذات يوم، تذكرت أمي درسا تلقته عن أمها، فطلبت من شقيقتي أن تأخذ وسادة محشوة بالريش إلى خارج المنزل وأن تشق غطاءها، ففعلت، فقالت أمي: والآن أريدك أن تجمعي كل الريش الذي تفرق وانتثر، قالت شقيقتي: "لكن هذا شيء مستحيل... فقد طار الريش في كل مهب" فقالت أمي: "هذا الريش يا ابنتي كالأكاذيب التي تذيعينها، تتفرق، ولا سبيل لاستردادها أبدا"، واليوم، كلما ألحت علي رغبة في إذاعة الإشاعات والأكاذيب التي تتناهى إلى سمعي، أتذكر الدرس الذي تلقته شقيقتي من أمي... فأحجم عن ذلك!

حقا... إن تربية الأبناء وتعليمهم الصواب والخطأ فيما يفعلون فن عظيم، ترى كم واحدا ممن حولنا يجيدون هذا الفن؟!