أجمل تعليق على مشكلة "ثوْرات" بركان أيسلندا الذي استمر ستة أيام وشلَّ الحركة الجوية نهائياً خلال هذه الأيام الستة، هو قَوْل إحدى الصحف البريطانية: "لقد شعرنا خلال إغلاق الأجواء أننا بدون سماء"، وحقيقة فإنني "أنا" قد أمضيت هذه الفترة بلا سماء، فقد اعتدْتُ كلما كنت أنْزل مستشفى "كينكز كولج"، كما هذه المرة أن أُشغل نفسي في بعض الأحيان بعدِّ الطائرات التي تعبر سماء هذا المستشفى من الشرق إلى الغرب في اتجاه مطار هيثرو الشهير، الذي يعتبر أهم مطارات العالم وأكثرها انشغالاً.

Ad

كانت ستة أيامٍ عصيبة، وقد شعرت كغيري أن "ثوران" هذا البركان اللعين وهيجانه قد يستمرُّ عاماً أو عامين أو إلى الأبد، ولهذا أخذت أفكِّر كغيري في كيفيَّة عودتي إلى وطني، الأردن، هل أنتقل إلى فرنسا بالقطار، وهناك أتدبر نفسي في اتجاه الأندلس لأشم رائحة أجدادي الذين أضاعوا ممالك لم يحافظوا عليها كالرجال، أم في اتجاه القسطنطينية عبر قطار الشرق السريع، ومن هناك إلى حلب ثم إلى عمان، كما كنت أفعل عندما كنت طالباً دائم التردد على الطلبة الأردنيين لأسباب سياسية وهذه الفترة هي التي تعرَّفتُ خلالها على الصديق أحمد الربعي (أبوقتيبة) الذي اختطف منَّا قبل الأوان بكثير ورحل وتركنا نجْتر حسرة فراقه.

خلال هذه الأيام "تصوَّرت" وأنا أحملق في فضاء بلا نهاية عبر نافذة غرفتي في مستشفى "كينكز كولج" الذي هو أطول عمراً من أعمار كلِّ دولنا العربية باستثناء مصر، ما الذي سيحصل لو أن أشقاء بركان أيسلندا في أوروبا كلها وفي آسيا وفي إفريقيا وأميركا بشمالها وجنوبها ووسطها وفي أستراليا ونيوزيلاندا أيضاً ثاروا دفعة واحدة؟... إن الذي يحصل هو "القيامة" وهو نهاية هذا العالم.

ولأنني في هذا المستشفى في حاجة دائماً إلى رياضة فكرية لأنسى أوجاعي ولأبْعد أُذنيَّ وقلبي عـن سماع أنَّات من هُمْ في الغـرف المجاورة فقد فكرت في الصلة بين "الثَّور" و"الثورة" بمعنى الانقلاب والثورة بمعنى انْفلات البركان من عقاله وحاولت الاستنجاد بما بقي في ذاكرتي من كتاب عظيم للمفكر اللّوائي (نسبة إلى لواء الإسكندرون) زكي الأرسوزي، رحمهُ الله، والبقية في حياتكم، عنوانه "في سبيل البعث"، والمقصود ليس الحزب السياسي الذي يحمل هذا الاسم نفسه وإنما بعث اللغة العربية.

لقد صدئت الذاكرة بعض الشيء ولم أعد أذكر مما احتواه "في سبيل البعث" شيئاً، ومع ذلك فقد وجدت أن الصِّلة بين "الثور" و"الثورة" و"ثورة البركان" هي فقدان العقل، وهو الهيجان الجنوني، فالثور أعطي هذا الاسم لأنه يصاب بالجنون في بعض الأحيان، ويفقد السيطرة على نفسه و"الثورة" هي هيجانٌ جنوني وخصوصاً إذا جاءت في هيئة انقلاب عسكري، أما البركان فهو ثورة وثور وثورات في الوقت ذاته.