قبل كتابة هذه المقالة بليلة، أعادني الصديق سعود العنزي برسالة تحريضية إلى أغاني طلال مداح، فسارعت إلى بعض أغانيه يشدني الحنين.

Ad

لا شيء يدوزن أوتار الروح كنغمة عود لطلال مداح مصحوبة بموال يرتله صوته العذب الشجي.

قيثارة الضوء هذه المسماة بطلال مداح تموسق أنفاس الوقت، تفتح خلايا الجسد لتغرس في كل خلية منها زهرة ياسمين، وينهمر ماؤها بين الحنايا لتتراقص الشرايين كأغصان الخيزران الرطبة، يأتي صوت هذه القيثارة في البداية كنسمة مثقلة بالشذى:

يا من هواه أعزه وأذلني

كيف السبيل إلى وصالك دلني

وأبدأ ألتمس بأطراف أصابعي السبيل إلى نوافذ الشجن التي فتحت للتو على مصاريعها مع ابتداء القيثارة بالشدو، لينساب من خلالها وجه حبيب، لم يجفف ملامحه البعد ليسقط، ولم يبلله القرب ليورق!

وتواصل القيثارة طرق أبواب الدروب بحثاً عن لحظة مشتهاة، في الوقت الذي تمارس فيه هذه القيثارة غوايتها بفتح النوافذ والدروب أمام القلب لرؤية لحظة ممتلئة بالنور، على نغم كلمات تناثرت بلّورا من صوت هذه القيثارة:

أنيري مقام البدر إن أفل البدرُ

وجودي بخمر الريق إن حرم الخمر

ففيك من الشمس المنيرة ضوؤها

وليس لها منك التبسم والثغر

ويرخي الليل جدائله، تاركا للقمر حرية تسريحه كيفما شاء، بينما يسرحني الحنين غدائر من وجد مع استرسال صفاء الصوت وحلاوته في القرار وفي الجواب، وتلك التموجات فيه التي تشبه لحظة برق في ليل حالك الظلمة.

نفس ذلك الصوت الذي أفقد الموسيقار محمد عبدالوهاب اتزانه في جلسة خاصة جمعته والفنان طلال مداح، وأخذ الأخير يترنم بريشته الحنونة وصوته الدافئ مواويل آسرة معنى ومغنى، ليردد عبدالوهاب: «الله الله الله» بعد كل جملة يُموّلها طلال، ثم يصيح عبدالوهاب بعد أن أنهى طلال مواله: «يا زرياب، يا زرياب، يا زرياب».

نفس ذلك الصوت الشهي، ونفس تلك المواويل التي رسمت باللون الأخضر على كراسة عرضها الوطن العربي قناديل لن تنطفئ، وجداول فن لن تجف، وخمائل نغم لن ينالها اليباس.

صوت يخال لك أن بإمكانك شربه إن ظمأت لعذوبته!

تنساب المواويل من تلك الحنجرة الذهبية، لتلون صفحة الوقت ببريق لونها، ولتحيي الأحاسيس في ردهات القلب، وتضيء غرفه الموصدة بشموع الحب، وتنثر في أوردته ماء الورد، لينبض عشقا ويتحدث طربا.

صوت طلال مداح إشراقة في مسيرة الفن في الجزيرة العربية والخليج، امتد نورها ودفئها ليصل إلى أقصى بقعة في الوطن العربي، وليتسابق كبار الملحنين العرب كعبدالوهاب وبليغ والموجي إلى العزف على أوتار تلك القيثارة السحرية.

وقد شكّل صوته الغائر في الجمال منعطفا هاما في مسيرة الأغنية السعودية، كما كان أداؤه التطريبي أساسا لبناء مدرسة حديثة في الأداء، نقلت الأغنية السعودية من سورها الضيق، وحلقت بها إلى آفاق واسعة ورحبة على امتداد الفضاء الفني.

قيثارة الضوء تلك كانت الرفيق المخلص لكثير من العشاق، الذين وجدوا بصوتها ماء يطفئ حريق مشاعرهم، وضوءا يكحل سهد جفونهم.

لك الحب ما بقي فنك خالدا فينا يا طلال.