لا يمكن أن يبدأ نقاش ديني بين اثنين في عالمنا العربي أو الإسلامي، دون أن ينتهي بواحدة من هذه العبارات: «صحح عقيدتك الفاسدة أولا ثم تعال ناقشني». «أنت رجل جاهل بالدين لا تفقه فيه شيئا». «أنت صاحب بدعة وتهرف بما لا تعرف». «فكرك ومنهجك ضال مضل ومخالف لإجماع الأمة». «لست سوى علماني يحارب الله ورسوله». «ما أنت إلا ليبرالي تغريبي فاسق زنديق»!

Ad

لنوضح أولا أن هذه العبارات موجهة لمسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يصلي ويحج ويصوم ويزكي ويتصدق ويؤمن ربما أكثر ممن وجه له هذه العبارات أو الاتهامات، لم يصرح يوما بكفر أو إلحاد أو إنكار للدين، ومسألة الكفر والفسق والزندقة كلها استنتاج من الطرف الآخر، لأن كلام الرجل وفهمه للدين وتفسيره للنصوص الدينية لم يعجبه ولم يوافق هواه!

وهو يعتبر مجرد اختلاف الآخر عنه في مثل هذه المسائل اتهاماً لعقله وقدرته على الفهم... بمعنى آخر: من يكون هذا الغبي ليفهم الدين أفضل وأحسن منه؟ إنها إهانة لذكائه ومعرفته وقدرته على الاستنتاج، وقبل هذا وذاك إهانة لعقول فقهاء قرأ لهم وأحبهم وكثيرا ما حاول تقليدهم وترديد كلامهم ببغائية يحسد عليها!

يروى عن الإمام عليّ بن أبي طالب أنه قال: «القرآن حمال أوجه» ومعنى هذا الكلام أن هناك آيات في القرآن الكريم غير صريحة تحتمل عدة معان، ولذلك، يفهمها كلَُ على الوجه الذي يريده ويوافق هواه أو قناعاته، ومن غير المعقول أو المقبول أن يشق المرء قلوب الناس ويسيء الظن بهم وبإيمانهم لمجرد أنهم رأوا معنى الآية على وجه غير الوجه الذي رآه به واقتنع بأنه الصواب!

فالتفاسير القرآنية فيها اختلاف كبير في التفاصيل، وكذلك الأمر بالنسبة للأحاديث النبوية، فمنها ما اعتبر صحيحا لقرون ثم أتى من ضعّفه أو اعتبره موضوعا، ولكل مجتهد منهم أدلته وبراهينه على صحة رأيه، ولا يجوز لمن يتبع تفسيرا أو رأيا في النصوص الدينية أن يحتكر الحقيقة وحده، ثم يلقي تهم الجهل والعقيدة الفاسدة والضلالة لمن اختاروا تفسيرا أو فهما آخر لهذه النصوص!

الحديث النبوي يقول: «اختلاف أمتي رحمة»... وهناك مقولة شهيرة للأولين: «ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر»... والقبر هو قبر الرسول عليه الصلاة والسلام... ومن هذا الاختلاف «الرحيم» ظهرت المذاهب الفقهية، وظهرت كذلك الفرق المذهبية، وهو أمر طبيعي وحيوي، لأن الأمة التي لا تختلف الأفهام فيها إما أنها أمة جامدة متخلفة وإما أنها أمة تحكم بالسيوف والسياط!

ومن العجيب والغريب أن يدعي البعض أنه ينتصر للدين ويغضب له، حين يقطب حاجبيه ويرفع صوته في وجوه مسلمين موحدين مثله، يتهمهم في دينهم وإيمانهم ونواياهم، وكل ذنبهم أن الله قد أعطاهم عقولا قادرة على التمييز بين الخطأ والصواب واختيار ما يرونه صوابا، ولأنهم يرفضون ثقافة القطيع في اتباع ما يقول ويأمر به البعض!

أن تعادي الآخر لمجرد أنه اختلف معك في الرأي والمنهج فهذا يعني أن غضبك وفزعتك ليست غيرة على الدين، إنما هي فزعة وغضبة لعقلك وفهمك وقناعاتك الذاتية، لأنك ترى في نفسك العلم وفي الآخرين الجهل، ترى في نفسك الصدق وفي الآخرين الكذب، الإيمان وفي الآخرين الكفر، الذكاء وفي الآخرين الغباء، إنها يا سيدي غضبة للنرجسية التي سيطرت عليك وجعلتك لا ترى سوى صورتك النقية الطاهرة الشريفة، وما عداها هباء منثورا!

لأجل أن يكون الدين مرنا ويتناسب مع كل عصر جعل الله في فهم نصوصه اختلافا، وشرع لذلك الاجتهاد، وجعل لمن يجتهد فيخطئ أجرا ولمن يصيب أجرين، وشمل برحمته الجميع، فلا يحتكرها أحد ولا يزكين نفسه على الله، فهو أعلم بما في قلوب البشر وهو المطلع عليها وحده، وما يدريكم لعل من ترونه فاسد العقيدة زنديقا خيرا عند الله وأرفع مكانة... فتوقفوا رعاكم الله عن تصنيف الناس والانتصار للنفس.. في كل مرة تسمعون فيها رأيا لا يعجبكم ولا يروق لكم!

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء