عندما أجاب الرئيس مبارك خلال المؤتمر الصحفي في ألمانيا عن سؤال الصحافية الألمانية عما إذا كانت مصر تعامل «البرادعي» كبطل قومي، «بقوله هو مرحب به في انتخابات الرئاسة ومصر ليست بحاجة إلى بطل قومي لأن الشعب هو البطل القومي»، فإنه لمس وتراً عاطفياً كامناً في أعماق نفسية قطاعات جماهرية ونخب ثقافية وسياسية مازالت تراهن على البطل صاحب المشروع القومي الذي يقودها لتحقيق الانتصارات والعزة والكرامة، ويخلصها من المعاناة والإحباط ويصلح الأوضاع.
يبدو أن هذا الحلم قد راود خيال د.محمد البرادعي بعد انتهاء فترة رئاسته للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعودته إلى بلاده بعد غياب 30 عاماً، عاش البرادعي في مقره الهانئ بفيينا خالي البال لا يشغل نفسه بقضية الإصلاح السياسي في مصر، ولم تكن فكرة ترشيح نفسه للرئاسة تخطر بباله، وكان قد أعلن أنه سيتفرغ لحياته ولكتاباته بعد تقاعده، فهو دبلوماسي عريق وليس له تاريخ نضالي، ولكن ما لم يكن متوقعاً حصل، إذ رأت فيه شخصيات مصرية الشخص المناسب لخوض انتخابات الرئاسة المصرية «2011»، فهو شخصية دولية مشهورة وحائز على جائزة نوبل للسلام ورجل قانون. وكان مركز ابن خلدون طرح اسمه مرشحاً للرئاسة «يناير 2004» وتلاه هيكل مقترحاً اسمه ضمن «لجنة الحكماء» المؤهلة للتغيير السياسي بمصر، لكن الرجل رفض الفكرة في البداية، ثم تردد ثم أخذ يقلبها فراقته: لمَ لا يكون الرجل المنشود الذي يحقق التغيير في مصر؟! فقرر أن يقبل بشروط منها: تشكيل لجنة قومية مستقلة للانتخابات وإشراف قضائي كامل، ورقابة دولية، ودستور جديد أساسه «الدين لله والوطن للجميع»، وقال «إذا قررت الترشيح لهذا المنصب الرفيع– الذي لم أسع إليه– فسيكون ذلك إذا رأت الغالبية من الشعب بمختلف انتماءاته أن ذلك سيصب في مصلحة الوطن».يريد أن يكون رئيساً يتفق عليه الجميع، ثم أكد «أنه سيرشح نفسه فقط إذا التحم الشعب حوله»، وتلقى عرضاً من حزب الوفد لتولي زعامته كما تمنت الأحزاب المصرية أن ينضم إليها تمهيداً للترشيح كما يقضي الدستور، لكنه فاجأ الجميع وقال: إنه لم يترشح من الأحزاب المصرية لأنها مجرد «ديكورات» وطرح نفسه بديلاً ثالثاً بين النظام الحاكم والمعارضة ونزل إلى الشارع مباشرة– بالبراشوت كما يقول ناقدوه– متجاوزاً الأحزاب والمؤسسات القائمة، لا يريد أن يكون طرفاً من أطراف اللعبة فهو يرفض قواعدها ولا يقبل بشروطها. بدأ البرادعي أول وصوله إلى مصر بلقاء للقوى السياسية في منزله «23-2- 2010» وأعلن تأسيس «الجمعية الوطنية للتغيير» داعياً المصريين إلى الانضمام إليها من أجل تعديل الدستور وإجراء الإصلاحات، والتف حوله رجال مختلفو المشارب والأهواء لا يجمعهم إلا «مناوءة النظام ورفض التوريث» منهم حسن نافعة صاحب حركة «ميحكمش» وأيمن نور صاحب «كفاية» والصحافي الناصري حمدي قنديل، والمستشار محمود الخضيري الذي استقال من القضاء ليعمل بالسياسة وحمدين صباحي صاحب «الكرامة» والشاعر الناشط عبدالرحمن يوسف القرضاوي المنسق للحملة الشعبية لترشيح البرادعي عبر «الفيس بوك». واستهل البرادعي أولى جولاته الشعبية في محافظات مصر بزيارة لمدينة المنصورة، حيث أدى صلاة الجمعة والتف حوله أنصاره هاتفين «التغيير التغيير» «لوترزي الدستور إبليس... مش هنأيد التوريث»، وزار البرادعي مسجد الإمام الحسين وأدى الصلاة هناك، وقام بجولة في خان الخليلي مما دفع معارضيه للقول «الدعاية السياسية مكانها الأحزاب والصحف والفضائيات وليس دور العبادة». الآن: ما وسائل البرادعي أو أسلحته في معركة التغيير السياسي؟ 1- «الفيس بوك»: وضع أنصار البرادعي على صفحة «البرادعي رئيساً» رسماً بيانياً يوضح ازدياد أعداد مؤيديه من الشباب حتى وصل إلى مليون شاب، لذلك يرى البعض أن شعبية البرادعي آتية من عالم افتراضي، حيث تتخذ من المواقع الإلكترونية مكاناً لها بهدف حشد أكبر قدر من التأييد له. «شعبية الإنترنت». 2- التوقيعات والتوكيلات: دعا البرادعي المصريين للتوقيع وقال في مؤتمر جماهيري في مسقط رأسه "سمنود": «نحن في انتظار أن يصل عدد الموقعين على بيان الجمعية إلى الملايين حتى نتحرك بشكل مختلف سلمياً»، وانتقده خصومه بأنه لا توجد دولة في العالم تعتمد «ديمقراطية التوكيلات». 3- المسيرات السلمية: يهدف البرادعي إلى نزول أكبر عدد ممكن من الناس إلى الشارع، وعندما سئل إذا كان أنصاره سيخرجون في مظاهرات، قال «الناس يتحدثون عن كل شيء وربما أعلنوا عصياناً مدنياً إذا لم يحدث التغيير»، وقد أرادت حركة «6 أبريل» تنظيم مسيرة بمشاركة أنصار البرادعي للدعوة إلى إنهاء حالة الطوارئ وتعديل الدستور المصري: المواد 76 الخاصة بطريقة انتخاب رئيس الجمهورية و77 الخاصة بتحديد مدة الرئاسة و88 الخاصة بالإشراف على الانتخابات، ولكن قوات الأمن تصدت لهم واعتقلت بعضهم ثم أفرج عنهم، لكنهم عادوا يؤكدون تراجعهم عن مطالبهم، وقال حمدي قنديل المتحدث باسم الجمعية «انتظروا منا المفاجآت وسنواصل تحركاتنا بأشكال تربك حسابات الحكومة». 4- الاعتماد على الشباب: يقول البرادعي «إذا كانت مصر ستتغير فإنها ستتغير من خلال الشباب». 5- الاعتماد على وسائل الإعلام المستقلة التي احتفت بالبرادعي كثيراً. 6- زيارة المساجد والكنائس: استهل جولاته بزيارة دور العبادة وهاجمه بعضهم بقوله: البرادعي لم يفكر طيلة 40 عاماً أن يزور مسجداً أو كنيسة فلماذا الآن؟وإن «ظاهرة البرادعي تطرح عدداً من التساؤلات منها: ما الذي أغرى هذا السبعيني ترك نعيم أوروبا لوجع الرأس السياسي؟! وما الذي حفز هذا الذي قضى عمره في الدبلوماسية، ولم يذكر له أي نشاط سياسي من قبل للتصدي لمعضلة التغيير الديمقراطي؟! نحن لا نشكك في دوافعه الإصلاحية ولا نياته المخلصة ولا أهدافه النبيلة، ولكن ما الدوافع والمحفزات الغلابة التي تجعل إنساناً لا يعمل في المجال السياسي الخالص ينغمس فيه؟ إنه إلهام خفي يأتيه فيزين له أن يقدم على هذا العمل، فهو الشخص المنتظر والناس بحاجة إليه، والوطن يريده، ثم يتصور أن التخلي عن الاستجابة لنداء الوطن والجماهير تخلٍّ عن المسؤولية الوطنية. ومن ناحية أخرى علينا أن نتساءل: ما هذا الفراغ السياسي الذي يدفع الناس للمراهنة على شخص وتعليق الآمال عليه في التغيير والإصلاح؟! ولماذا المراهنة على الفرد؟ ولماذا لا يعمل الناس على تغيير واقعهم بأنفسهم؟ «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ »، ولن يستطيع الفرد مهما أوتي من حكمة وقوة و«كاريزمية» أن يغير شيئاً إذا كانت البيئة المحيطة مانعة، فهذا قانون اجتماعي صارم، بل إن النتائج ستكون محبطة، وتجارب التاريخ تقول إن المراهنات الشديدة على دور الفرد البطل تفسده، وفرعون ما فرعنه إلا الملأ حوله فاستخف بهم فأطاعوه! كيف يصدق هؤلاء الذين التفوا حول البرادعي بأنه الرجل الموعود بتحقيق حلم الثورة «الخضراء» وإعادة أمجاد عبدالناصر كما ذهب إلى ذلك كمال غبريال مؤلف الكتاب؟!دعونا الآن نتأمل ماذا يقول الخصوم والناقدون عن دعوة البرادعي للتغيير؟ يجمع هؤلاء على أن ما يدعو إليه البرادعي وما طرحه، سبق طرحه طوال السنوات الماضية من قبل الإصلاحيين المصريين والأحزاب، وليس فيه أي جديد، ولكن المشكلة الحقيقية أن الجماهير منشغلة بلقمة العيش اليومي ولا تلقي بالاً لتلك الدعوات والأحزاب والتنظيمات، فهي في واد والجماهير في واد آخر، وحتى عندما يتم تنظيم مسيرة فندر أن يزيد عدد المتظاهرين على بعض مئات، وسرعان ما تتبدد تحت وطأه القبضة الأمنية، فالأحزاب والحركات المصرية ومنها 24 حزباً شرعياً، ليست لها قواعد شعبية ماعدا الحزب الحاكم والإخوان. والنقد الآخر الموجه للبرادعي يتمثل في أنه لا خبرة سياسية لديه ولا يعرف طبيعة الخريطة السياسية في مصر بسبب ابتعاده عن البلاد مدة طويلة، وهو بانغماسه اليوم في العمل السياسي ستتكشف له أمور كانت غائبة عنه، وفي تصوري أن أخطر ما في القضية فكرة "البطل القومي" إذ يريد البرادعي أن يكون زعيماً شعبياً فهو يتجاوز الأحزاب والمؤسسات القائمة إلى الشارع مباشرة، وفكرة "الزعيم الشعبي" هي أخطر ما يهدد مستقبل أي بلد لأنه يرى نفسه فوق الجميع وفوق المؤسسات، فهو يستمد شرعيته من الشعب مباشرة، ويتصور أن قراره قرار الشعب، وهو إذا أراد شيئاً خطب في الشعب وشحنهم واستثارهم فانقادوا له، ورحم الله عبدالناصر كيف انقاد الناس له فكانت النتائج كارثية، فالرئيس الذي يأتي من خارج المؤسسات ويتجاوزها يستبد بها، فيجب تفكيك أسطورة الزعيم البطل وتوعية الجماهير بخطورتها، فالزعيم البطل سيلغي دور الشعوب ويعطل فاعليتها لأنه القائد الضرورة المجسد لآمال وتطلعات الجماهير.نحن نعلم أن التعلّق بالبطل المنقذ له عمق تاريخي في النفسية والثقافة العربية بدءاً بصلاح الدين ومروراً بعبدالناصر وانتهاء بالمهدي المنتظر، ولكن هذا التعلق والانتظار هما من أكبر معوقات النهوض، لأنه هذا المنتظر لن يأتي أبداً، ولأنه إذا أتى حلت الكوارث.* كاتب قطري
مقالات
الرهان على «البطل القومي»
12-04-2010