طويت صفحة من الذكريات
عتبات الدرج كانت مرتفعةً على طفل في السادسة أو الخامسة من عمره، فأنا لا أتذكّر عمري يقيناً في تلك الأيام، لكن كان عليَّ الصعود إلى السطح في المساء بعد صلاة العشاء، ففوق السطح كنت أتدثَّر ببهجة جميلة قبل النوم... أذكر أن سطح المنزل كان مُقسَّماً إلى قسمين، مكان للنوم، وآخر لقضاء الحاجة... ولم تكُن الحاجة سوى ممارسة عملية الإخراج تحت شمس الظهيرة أو تحت النجوم في المساء... كان من حظي السعيد أنه كانت لي أولوية قضاء حاجتي فوق القسم الآخر من السطح (أقصد قسم الإخراج)، فدورة المياه العربية كانت مُرعبة، أذكرها اليوم مثلما أذكر وصف الكاتب المغربي الطاهر بن جلون للسجن في رواية "تلك العتمة الباهرة"، كانت دار الخلاء مظلمة مخيفة تنبعث منها الروائح الكريهة الخانقة من كل صوب, "سراي زهيوي" صغير يضيء بوهن فيها، وكان عليَّ أن أجلس القُرفصاء مع الضوء الخافت، ضوء "الزهيوي" كان باهتاً، وزهيوي آخر حقيقي يتأمّلني بهدوء، ثم يحرك "شنبيه" إلى الأعلى والأسفل، كان "مايسترو" في حركة الشاربين، "مايسترو" فرقة كاملة مرعبة تشاهدك بهدوء وأنت تقضي حاجتك البشرية... نسيت أن أقول لكم إن "الزهيوي" بالكويتي يعني "الصرصار"، إذ كان الصرصار الحشرة يرعبنا كأطفال ويضيء لنا النور الجميل حين أسمينا الفانوس الذي يضيء على الغاز باسمه... واسمٌ على مُسمَّى...
لم يكُن المساء في تلك الأيام ملتهباً مثلما هي الحال اليوم، ولا يهمني ولا أكترث بأهل الأرصاد الجوية، عن صيف مضى كانت الحرارة فيه أعلى من المعدل أو أقل منه... أعلم يقيناً أنها كانت أهون وصيفنا كان أجمل وأحلى... ففي عصرية كل خميس "الذي ذبحنا فيه إبليس"، كنا نخرج إلى الدمنة (السالمية) و"الدجة" أو "الحالة"، وهو مربع من التراب يحيط به أسمنت بنيّ مُشقّق من حوافّه الأربع،كنا نقضي الأمسيات هناك، نتسامر وننام على نغم هدير الموج... لا جبال الألب في سويسرا ولا "روكي ماونتز" في كولورادو أميركا... كانت "الحالة" هي حالنا... بساطة وسماحة... لا سياسة ولا قلق ولا صداع رأس... كانت الأمور بخير... لم أكُن أعرف من السياسة غير صورة الرئيس محمد نجيب ببذلته العسكرية ونياشينه، صورة علّقها شقيقي المرحوم حمد العيسى في دار "الباغدير" (غرفة المنام وربما كان أصل كلمة "باغدير" فارسياً)، ثم غيّرها فيما بعد بصورة جمال عبدالناصر... وأيضا بوجهه المهيب وهندامه العسكري الأنيق... كان حمد يقول لنا إنه بطل العروبة... ثم رحلت الصورة... أو ربما بقيت في ذاكرتنا كصورة "دوريان غري" لأوسكار وايلد... ففيها يكبر البطل النرجسي دوريان ويشيخ وتدوم الصورة كما كانت في الماضي... كما هي الحال في العقل العربي الأسطوري... لا يحفل بحركة الزمن... إنما يقدّس ذكرى الماضي الغابر... ويجترّ الأمس... ويحلم بعودته كما هو الأمر في حكايات ألف ليلة وليلة، وكان ويا ما كان... ما شأني اليوم، وماذا يهم قارئ هذه الجريدة أن أسرد عليه ومضة سريعة من الذكرى، وأقرأ عليه صفحة مطوية من الماضي الجميل... هي ذكريات لم "تعبر أفق خيالي"، فقلبي مازال على "حقيقته" لا على غفوته... يحاول أن يفهم معنى الزمن... ويجاهد كي يدرك معنى الحياة ومغزى الفناء... أيام مضت... وانتهت... لكنها تظل باقية في تجاويف الذكريات... تظل دائمة في عمر الزمن، ويظل وجودنا معها أزلياً... فالوجود دائم لا ينتهي.. والزمان مُطلَق... ولسنا سوى صور لصقت عشوائياً على شاشة التاريخ... لم تنتهِ حكايتي في بيت شرق... فهي صورة محفورة على جدار الزمن... فلماذا نتكدّر حين يغيب أديسون وكاريير عندما تنقطع الكهرباء بضع ساعات في جهنم الطقس ونصرخ: واهي... جهنم... حر... الله يسامح حكومتنا الدائمة بعون الله تصرف وتصرف الملايين على الفارغ والمليان... وهي ثابتة كأبي الهول... الطقس في الدنيا يتبدل ويتغير وهي لا تتغير ثابتة مُطلَقة كقدر مُطلَق وأسطورة من خيالات هوميروس... احملوا الأسرّة إلى الأعلى... فوق سطوح منازلكم... تأمّلوا النجوم كما تأمّلتها في الأمس البعيد... وإذا لم تروها بسبب الغبار وعيونكم المترفة... فما عليكم سوى اللجوء إلى الخيال والوهم... فلسنا في النهاية غير وهم قصير من الملل والسأم في كون بني نفط الصغير.