المشكلة الكبرى التي صرنا نعانيها هذه الأيام، هي أن الناس قد فقدوا كثيرا من القدرة، على الإيمان بأن الاختلاف بالرأي يجب ألا يفسد للود قضية، فصار الواحد منهم لا يقبل أن تختلف معه في أي شيء، وبالأخص تجاه القضايا السياسية. فقدت دفتراً صغيراً لي كنت كتبت فيه واحداً من مقالاتي السياسية وأنا في إجازتي الأخيرة، بعدما ألحت علي حينها فكرة ناضجة. والحقيقة أني لا أكتب بالقلم في السنوات الأخيرة إلا نادرا، فقد تحولت إلى استخدام الكمبيوتر منذ زمن بعيد، حتى كادت أن تكون استخداماتي للقلم اليوم منعدمة تماما، فاستحال خط يدي إلى طلاسم لا يفكها إلا عفريت أزرق من كبار الجن، إلا أنني كتبت هذا المقال بالذات بالطريقة المعتادة لظروف الإجازة التي ألزمت فيها نفسي بعدم حمل اللابتوب.

Ad

لكن، وإن كانت فكرة المقال المفقود لا تزال واضحة جدا في عقلي، إلا أنني ما كنت لأستطيع استعادة ذلك الجو الذي كتبته فيه، وتلك الحالة النفسية والمشاعر التي تلبستني وصاحبت كتابته، فالكتابة بالنسبة لي، بما فيها كتابة المقال السياسي، ليست كتابة تقريرية، بل هي في المقام الأول حالة فكرية نفسية آنية خاصة، لهذا فالمقال الذي يضيع مني لأي سبب من الأسباب، يكون من المحال أن يعود كما كان في لحظة تخلقه الأولى ونشوئه في عقلي ونفسي، حتى إن بقيت فكرته البذرة قابعة في الذاكرة.

ولكن ومع ذلك لا أدري، فلعله خيرا علي أن ضاع المقال، فلعلي كنت سأندم لو هو نشر، ليس لأنه كان سيجر رفض من تناولتهم فيه وسيستفز مشاعر أتباعهم ضدي، فهذا قد صار معتادا تجاه كثير من مقالاتي، حتى العامة وغير السياسية منها، كما أنه شيء إيجابي جدا بالنسبة لأي كاتب ومكتوب في ظني، فلا قيمة لمكتوب يكتب وينشر ويمر ولا يشعر به أحد، فلا هو نال عبارة استحسان ولا صرخة استهجان!

مبعث الندم المحتمل قد يكون ربما، وأقول ربما، أني قد أدوس على مشاعر بعض من أكترث لأمرهم، ممن يعتنقون من الأفكار ما يعاكس ما أومن به، فالمشكلة الكبرى التي صرنا نعانيها هذه الأيام، هي أن الناس، حتى أقربهم للواحد منا، قد فقدوا كثيرا من القدرة، إن لم يكونوا فقدوها تماما، على الإيمان بأن الاختلاف بالرأي يجب ألا يفسد للود قضية، فصار الواحد منهم لا يقبل أن تختلف معه في أي شيء، وبالأخص تجاه القضايا السياسية، وإن أنت تجرأت على اعتناق وجهة نظر مخالفة لما يؤمن به، فسرعان ما سيهاجمك وربما يشرع في التجريح بك.

هذه الحالة المجتمعية المتوترة إلى حد الغليان اليوم، قد دفعت كثيرا ممن أعرف إلى الكف عن التعبير عن آرائهم «المختلفة» علنا، فصاروا يؤثرون الصمت على أن يقولوا ما هو مختلف عما يؤمن به من هم حولهم، ناهيك عما هو سائد، وقلة قليلة، بل حتى أقل من ذلك، هي تلك التي لا تزال تعبر عما يجول في نفسها دون حساب أو قلق مما قد يجره ذلك عليها.

على أي حال، فالمقال وكل الدفتر بما فيه قد بات في التيه، وحتى يرده جامع الناس ليوم لا ريب فيه، على خير النفوس أترككم.