لم يسلم من الهجوم والفجور في الخصومة، ومن طعنات الهجوم الهمجي المتطرف، بل أمعنوا في هجومهم حتى منفاه إلى بلد الفيلسوف سبينوزا العظيم هولندا، هكذا بدا التطرف ضد العملاق الكبير وأحد الرواد الحداثيين نصر حامد أبوزيد، بعد أن كرس حياته لنقد الفكر الماضوي، ونقد التراث الديني، غير عابئ بما حاول الظلاميون بوسائلهم المتخلفة طمس الحقائق التاريخية ومهاجمة كل من يحاول الحرث والتنقيب في الموروث الديني، فوضع المفكر الكبير تلك الموروثات الدينية تحت مبضع النقد والتجريح بأدوات العقل ومنهجية البحث العلمي، دون النظر إلى القداسة والهالة الكبيرة حول الشخوص والنصوص الدينيين، بل بأخذ الاعتبار لدور العقل في دراسة النص الديني "باعتبار أن الحضارة العربية والإسلامية هي حضارة النصوص، كما أن الحضارة اليونانية هي حضارة العقل" من كتاب "مفهوم النص" لنصر أبوزيد.
من خلال زيارتي لهذا المفكر الكبير في القاهرة بعد يومين من منعه من دخول الكويت، لم أستطع إلا أن أقف مذهولا أمام هذا المفكر، وهو يستعرض إشكالية ومحنة المثقف العربي في واقع متخلف يجتر الفكر الماضوي دون النظر لاستخدام آليات العقل ودوره البناء في تقدم البشرية، رائد فكري يطلق جناحي عقله ليحلق بك بعيدا في عالم التفكير والبحث والتأمل، وباحث من الطراز الفريد وهو يحاورك ليسبر أغوار عقلك ليرسم لك خارطة بحثية لكل كبيرة وصغيرة، بدءا من المباحث العقلية المجردة إلى التجربة الصوفية النقية من خلال ما تسمعه لدور التجربة الروحية لابن عربي، والدين القائم على الحب والتسامح عند الفيلسوف والمتصوف ابن عربي، تلك التجربة الروحية الخالصة نحو "دين يجمع الدير والكعبة وبيت الأوثان ومرعى الغزلان، فقلب العارف يتسع لكل هذه الصور من العبادات والشعائر، ويؤمن بكل هذه المعتقدات لأنه يعرف الأصل الوجودي الذي تستند إليه جميعها". من كتاب "هكذا تكلم ابن عربي".كما سلط الراحل الضوء على دور المعتزلة العقلاني في التأويل والاتجاه العقلي لهم في كتاب يتناول فيه المنهج المعتزلي في التفسير، والذي يقول فيه: "إذا كان المعتزلة قد مثلوا الفكر التنويري في الإسلام، فذلك لأنهم حاولوا تلبية الحاجات الجديدة التي نشأت عن الابتعاد زمنيا عن لحظة صدور الوحي، وبالتالي أسسوا لدراسة العلاقة بين الخطاب الإلهي والخطاب الإنساني". إن الحاجة لتلك الدراسات في عصرنا الراهن هي لتبدل الزمان والمناهج الفكرية الجديدة هي بقدر الحاجة التي دفعت الكثير من المدارس الفكرية والفرق الإسلامية قديما وحديثا لتبني مناهج مختلفة قائمة على التأويل للكثير من التشريعات والعقائد الناشئة، من خلال الفهم الخاص للنص الديني ومحاولة تطبيقها بالقوة على الآخرين.إن تلك الأفكار والمباحث الفلسفية التي حاول الفقيد الراحل إيصالها عبر قراءاته وأبحاثه هي بحد ذاتها حل لحالة التوتر والنزاع الناشئ في البلاد العربية والإسلامية بين السنة والشيعة وبين المسلمين والنصارى- مصر نموذج- مما أشعره بالكثير من الاستياء والخوف على مستقبل مصر، مما حدا به لتوجيه أكثر من نداء للحكومة من مغبة التغاضي عن هذا الصراع المتأجج بين الطائفتين بدعوى دين الدولة الإسلام!! دون مراعاة لحقوق الأقليات الدينية المسيحية أو البهائية وبمقولته المشهورة (إن الدولة لا دين لها) بمعنى فصل الدين عن الدولة.إن الحديث عن دور هذا المفكر يأخذنا إلى أبعاد وآفاق كثيرة تتطلب منا الجهد العقلي وسعته في هضم اجتهاداته فيما يختص بالمنهج العقلاني المضني، ولعل ما يمارسه المتطرفون من تسطيح لدور العقل هو تهميش لدور الإنسان وحريته في التفكير."إنها اجتهادات قد يختلف القارئ معها أو يختلف لأنها مطروحة للنقاش، وهي في النهاية اجتهادات لا يمتلك صاحبها سلطة من أي نوع لفرضها على الناس، والأهم أن صاحبها يقف ضد كل سلطة وأي سلطة تحول بين الإنسان وحريته في التفكير". من كتاب "دوائر الخوف" نصر حامد أبوزيد. نم قرير العين فلا نامت أعين الجبناء.
مقالات
وداعا أبوزيد
08-07-2010