كم هي بهية

نشر في 19-10-2009
آخر تحديث 19-10-2009 | 00:00
 فوزية شويش السالم تتميز سلسلة إبداعات عالمية التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون الكويتي، بالتنوع في اختياراتها وجودة هذه الاختيارات. حقيقةً، كل ما قرأته من هذه السلسلة هو أعمال رائعة، اختِيرت بدقة مدهشة، فشكراً لكل من يعمل فيها، وسأكتب اليوم عن رواية «بالأبيض على الأسود» وهي سيرة لا رواية، وباختصار هي تتناول حياة مؤلف الكتاب «روبين دايفيد غونساليس غاليفو» الذي ولد من أمِّ إسبانية، ابنة أحد قياديي الحزب الشيوعي الإسباني المُقيم في باريس، الذي أرسل ابنته «أورورا» لتدرس في جامعة موسكو لإعادة تربيتها، وهناك تتزوج بطالب من فنزويلا هارب من نظام الخونتا، وتحمل منه بتوأمين يموت أحدهما بعد عشرة أيام من الولادة، أما الآخر فيُصاب بشلل الأطفال الدماغي، وبعد ذلك يتم إخبار الأم بأنه قد مات.

تغادر الأم إلى فرنسا حزينة، من دون الحصول على شهادة وفاة ابنها، ويُكتب للطفل أن يعيش من جديد، ويُرسل إلى مستشفيات عديدة ودور رعاية مختلفة، ذاق فيها ألوانا وأشكالا من صنوف العذاب والوحدة والتقشف، إلى أن قرر مخرج إسباني-ليتواني تصوير فيلم وثائقي عنه عام 2000 عبر رحلة تمتد من: نوفوجيركاسك، موسكو، مدريد، باريس، براغ التي التقى فيها بأمِّه لأول مرة، حيث قرر البقاء معها ومن ثمة يعودان ليستقرَّا في وطنهما الأم إسبانيا في 22 سبتمبر 2001.

المهم والمدهش في هذه الكتابة، هو الرغبة والتشبُّث بالحياة التي لا ندركها نحن المكتملين، تمسك بالحياة حتى إن كانت لا تأتي بأي شيء، ولا تحمل أي معنى من الحياة، من غير أيدي، أو من غير أرجل، أو بعقل شبه مدمر تستمر الحياة، وبقوة، وإرادة وعزيمة مذهلة للبقاء والاستمرار في الوجود بكل هذه المعطيات التي لا تمثل إلا النذر القليل للعيش على حافة الحياة أو حافة الموت... يا الله كم التعطش إلى الحياة والبقاء فيها مذهل... مذهل حقاً وكم نحنُ المكتملين، الذين نضعف ونتأفف ونتذمر من أي أمر يعترض ترف اكتمالنا، وما أعظم هؤلاء الذين يتعلقون بالأدنى من كل شيء، حتى إن كان ذرة من بقاء يتأرجح على حافة الغياب وذبالة الحضور.

قراءة هذه السيرة تعلم القارئ الامتنان لكل نفس يخرج ويدخل في رئته، لكل النعم التي يرفل بها إنسان مكتمل، منحه الله أبهة الحياة وبكاملها في جسد وعقل متعافٍ، هدية يجب أن تُحمد وتُشكر ليل نهار.

في كتابة «روبين» ألم... ألم... ألم، لكنه متسلح بالكفاح والصمود، وليس هو الوحيد في هذا الألم، لكنه يكشف لنا عن عالم من البشر المكافحين مثله والمتشبثين بتلك القطرة اللامعة والثمينة من الحياة، كتاب أتمنى أن يقرأه الجميع ليكتشفوا سر الحياة العجيب، وهذه فقرات من الكتاب تحتاج إلى مساحة عرض أكبر:

* التحدث مع إنسان، كان بالنسبة إليَّ كثيرا جدا، كثيرا جدا للوعي الطفولي، ترف فاتن، كان كل شيء مع لوليتا لأول مرة، لأول مرة نقلوني من السرير إلى النقالة وأخرجوني إلى الشارع، لأول مرة استطعت طوال حياتي في المستشفى أن أرى السماء، السماء بدلا من السقف الأبيض الأبدي.

* أنا الشخص غير الصحيح في العالم الصحيح تماماً، أتعلم هكذا ببساطة حتى لا أجن، حتى لا أصبح صحيحا.

* من الممكن مادامت قوة في اليدين بقيت لدفع عربة النقل الخاصة إلى المرحاض، مادامت اليد تمسك بالملعقة، مادامت هناك كفاية في العمر، الكفاح يوميا من أجل الحق في اعتبار نفسه إنساناً. 

back to top