التصريح الفضيحة لديوان الخدمة المدنية
ما يدعو للأسف أن كثيراً من الأمور في البلد تسير نحو الاتجاه الخطأ، بالرغم من وضوح عواقب هذه الخيارات الخاطئة على مستقبله، ولعل من أكبر الأخطاء الاستراتيجية التي ترتكبها الحكومة هو سياسة زيادة الكوادر والمعاشات في القطاع الحكومي بصورة عبثية وغير مدروسة، وهو ما أدى بالمجلس الأعلى للتخطيط أخيراً إلى «مطالبة الحكومة بضرورة دعم العمالة الوطنية وتوجيهها للقطاع الخاص والعمل على مراقبة التضخم في الباب الأول للميزانية وعلاج التضخم الوظيفي في سوق العمل الحكومي ودعم القطاع الخاص بما يضمن احتواء المواطنين الكويتيين للعمل لديه». (الجريدة 30-11-2009)
فحجم ما أنفقته الدولة على الكوادر والمزايا المالية الممنوحة للعاملين في القطاع العام منذ سنة 2005 إلى الآن- حسب قول مصدر حكومي- بلغ تقريبا ملياري دينار (القبس 18-10-2009)، وتمت هذه الزيادات بالرغم من توصية البنك الدولي- بتكليف من مجلس الوزراء- في 2007 بعدم زيادة الرواتب!وبنظرة فاحصة لطريقة إقرار هذه الزيادات نجد أنها لم تقر استنادا إلى دراسة شاملة لجميع قطاعات العمل بالدولة، وماهية التخصصات التي تحتاجها في المستقبل، ومكافأة المتفانين بالعمل ومعاقبة المتقاعسين، بل نجد أن تلك الزيادات (مع أحقية بعضها) أقرت تحت الضغوط وابتزاز بعض النقابات، مما أدى إلى تفضيل جهات لا تستحق التفضيل على أخرى، وإلى تفضيل الإداريين في بعض الجهات على الفنيين في جهات أخرى، وهو الأمر الذي أدى إلى تكريس البطالة المقنّعة والبيروقراطية وتشجيع الناس على الالتحاق بالقطاع الحكومي- خصوصاً مع تدخلات النواب- بدلاً من القطاع الخاص. والحديث عن البطالة المقنّعة وتدخل النواب في التوظيف ليس كلاماً من عندي بل اعترف به أحد مسؤولي ديوان الخدمة المدنية بشكل غير مباشر، فقد صرح مدير إدارة تسجيل القوى العاملة في الديوان فيصل البسام بأن «نواب مجلس الأمة يقدمون خدمات جليلة لمنتظري الدور للتوظيف، فمثلاً أحدهم يريد أن يتوسط لشخص دوره في النظام 14، فإنه مجبر أن يأتي من الجهات الأخرى بـ14 احتياجاً وظيفياً حتى يتسنى له توظيف قريبه، وهذا ما يساعد على استعجال الدور في توظيف المواطنين لأن الكثير من الجهات لا ترد على طلبات الديوان». (القبس 20-10-2009).وهذا التصريح هو في حد ذاته مصيبة وفضيحة كبرى واعتراف صريح بأن كثيراً من الوظائف التي يقرها الديوان لا تحتاجها الوزارات، بل إنها تشكل عبئاً مالياً وإدارياً عليها وتحول الديوان إلى مصنع لتفريخ البطالة المقنّعة.والدليل الآخر على تخبط وعشوائية سياسة ديوان الخدمة المدنية هو تنافس وتحدي بعض الجهات على زيادة كوادرها، فبعد إقرار كادر المهندسين في القطاع الحكومي قبل أكثر من خمس سنوات مثلاً، أراد العاملون في القطاع النفطي زيادة كوادرهم حتى يظل الفارق المجزي والمشجع على بقائهم في ذلك القطاع. وبعد تحقيق ذلك يريد المهندسون الحكوميون الآن زيادة كادرهم من جديد، وإذا تحقق لهم ذلك فإن القطاع النفطي سيطلب مجدداً زيادة أخرى لرواتب المنتسبين إليه. وكذلك الأمر بالنسبة للسلطة القضائية بعد تهديدها بطلب زيادة أخرى على معاشات القضاة إذا أقر كادرهم الحالي على العاملين في إدارة الفتوى والتشريع.لقد كانت سياسة الحكومة عبر ديوان الخدمة في السنوات الماضية كارثة استراتيجية قد لا نشعر بها إلا على المدى الطويل، والمثير للسخرية أن الحكومة التي ردت قانون إسقاط فوائد القروض (مع تأييدي لهذه الخطوة) بحجة الحفاظ على المال العام ومستقبل الأجيال القادمة هي نفس المؤسسة التي وافقت على كل هذا الهدر في الإنفاق السنوي على الرواتب وتضخيم القطاع العام بدلا من تقليصه. وكان لهذه السياسة الخرقاء أثر كبير في زيادة التضخم- أي شفط جزء من هذه الزيادات- وسبب من أسباب مشكلة القروض، ولو كانت رواتب القطاع العام قد أُخضعت لدراسة شاملة وتمت على ما هي عليه مع إضافات بسيطة هنا وهناك، وإعطاء الأفضلية للوظائف الفنية، لكننا وفرنا الكثير من المشاكل والهدر، ولكان القطاع الخاص أكثر قدرة على جذب المواطنين مما سيؤدي إلى تقليص القطاع العام وبالتالي تقليص البيروقراطية.