قبل ثلاث سنوات، التقيت الأكاديمي والمفكر العراقي وعالم الاجتماع فالح عبدالجبار في كردستان العراق، في المهرجان الثقافي السنوي الذي أقامته مؤسسة "المدى" الإعلامية، ولم أكن في ذلك الوقت أعرف الكثير عن فالح عبدالجبار، ولم أقرأ له غير كتابه الصغير "معالم العقلانية والخرافة في الفكر العربي المعاصر" الذي نشرته دار الساقي. وفالح عبدالجبار، يطوّر اليوم جهود ابن خلدون، وعلي الوردي في علم الاجتماع العربي، ورأي أن أفضل وسيلة لتطوير هذا العلم، إنشاء معهد للدراسات الاستراتيجية في بيروت، ثم في بغداد بعد ذلك، ينْشَطُ فيه علماء الاجتماع، ويقدمون، وينشرون أبحاثهم، وقد تمَّ له ذلك، فأصدر هذا المعهد مجموعة من الدراسات السياسية والاجتماعية العلمية المتخصصة المهمة منها: "المجتمع المدني في عراق ما بعد العرب"، و"الإثنية والدولة" لهشام داود وفالح عبدالجبار، و"المستبد" لزهير الجزائري، و"محمد عبده.. إمام الحداثة والدستور" للمفكر السوري عبدالرزاق عيد، و"الدستور والمرأة" لرشيد الخيون وبدور زكي محمد، و"الديمقراطية.. مقاربة سوسيولوجية تاريخية"، وغيرها من الكتب المهمة، التي يحرص كل مُحلل ومُعلِّق سياسي مهتم بقضايا الوطن العربي وقضايا العراق خاصة، على متابعتها، والاستنارة بها.
دراسة دسمة عن صراع الأضداد العراقيةقام فريق من الباحثين الجادين بإعداد تقرير عن الحالة العراقية تحت عنوان "ديناميكيات النزاع في العراق: تقييم استراتيجي"، ومن هؤلاء الباحثين رائد فهمي الباحث والمحلل الاقتصادي، والبروفسور راي كيلي المتخصص بالدراسات التنموية، وأليخاندور كولاس الذي كتب عن "سيناريوهات النزاع"، وتيم هيث الذي كتب عن "مساهمة في سيناريوهات النزاع"، وهشام داوود الذي كتب أخيراً عن "مساهمة في العلاقات الإثنية".ورغم كثرة مواضيع هذا الكتاب، فإن عدد صفحاته لا يتجاوز 112 صفحة من الحجم الصغير. لذا فهو كبسولة فكرية وعلمية مكثفة ودسمة، تفعل مفعول جرعة الدواء، ويبدو أن "معهد الدراسات الاستراتيجية" قد درج على إصدار معظم كتبه بهذا الحجم، أو أقل قليلاً، مراعاة لسوق النشر العربي المتردية أولاً، وثانياً حرصاً على عدم انفلات القارئ العربي النزق- هذه الأيام- من الكتب الضخمة، في ظل تعدد وسائل الحصول على المعرفة، وانتشار الفضائيات، ووسائل التسلية التي أبعدت المتلقي العربي عن الكتاب، كوسيلة وحيدة سابقة للمعرفة والتسلية.حاجة العراق والعرب لمثل هذه التقاريريشبه تقرير "ديناميكيات النزاع في العراق: تقييم استراتيجي" 2005، سلسلة التقارير التي أصدرتها الأمم المتحدة عن "التنمية البشرية في العالم العربي"، منذ 2002 حتى 2009، والتي أعدتها مجموعة من الخبراء والباحثين العرب. فتقارير الأمم المتحدة تتحدث عن العالم العربي عامة، بينما تقرير "ديناميكيات النزاع في العراق: تقييم استراتيجي" يتحدث عن العراق وحده، ويركز اهتمامه على العراق. ومن هنا جاءت أهميته للعراق والعرب كذلك، في ضوء عدم وجود أبحاث علمية أكاديمية رصينة، للحالة العراقية بعد 2003.اقتران التنازع بعملية ثلاثية الأبعادإن الحقيقة المُرَّة التي تصدمك بها مقدمة هذا الكتاب/ التقرير، هي واقع العراق الاجتماعي والسياسي المرير، الذي يقول لنا بصراحة متناهية، ووعي علمي دقيق، إنه منذ نقل السيادة للعراقيين، في 2004، والعراق يرزح تحت وطأة النزاع بين قوى الطوائف والجماعات، في تنافس جماعي على "الحصص" و"المنافع"!ويخلص التقرير إلى أن التنازع التنافسي، يقترن بعملية ثلاثية الأبعاد هي:إعادة بناء الأمة، وإعادة تشكيل هيكلية الدولة، وإرساء الاستقرار. القتال من أجل السيطرة على المواردويؤكد التقرير، أن مختلف أطراف النزاع يتقاتلون من أجل السيطرة على إعادة توزيع الموارد الاجتماعية والاقتصادية، وعلى أدوات السلطة السياسية، في عراق ما بعد صدام. وهو ما نشاهده الآن، وما يجري حتى هذا التاريخ (2010) من خلال الأزمة السياسية العراقية الحالية، ورفض المالكي (الملك غير المتوّج) التنازل عن السلطة حتى الآن، رغم أن هذا التقرير قد كُتب ونُشر عام 2005 فقط.ويؤكد التقرير- كما نعلم ونشاهد يومياً في العراق- أن مختلف الأطراف، ذات الأهداف المختلفة، تستخدم شتى الأساليب في التصارع حول الموارد والسلطة.ومن الأمثلة التي يوردها هذا الكتاب/ التقرير من الواقع العراقي الماضي (2005) وتنطبق على الواقع الحالي (2010) أنه خلال انتخابات يناير 2005 سعت أغلبية القوى المتنافسة إلى كسب رضا الناخبين، بوسائل غير عنيفة بشكل عام. وأدى نجاح الانتخابات إلى منح العملية السياسية الجارية درجة معينة من الشرعية.كيف نقرأ مستقبل العراق؟هذا هو السؤال المهم في نظر الجميع، فالواقع العراقي الآن يدركه الجميع، وقد أعطى الإعلام العراقي الحر- نسبياً- الفرصة للمتلقي العراقي والعربي والغربي، لكي يطَّلع على الواقع العراقي بشفافية ووضوح نسبيين.أما عن الغد والمستقبل العراقي، فيتحدث التقرير عن "استطابة" العراقيين للاقتصاد الريعي، وهو اقتصاد تتولى فيه الدولة إطعام مواطنيها. وهي سمة الاقتصاد العربي عامة، سواء في الدول العربية النفطية، أو في الدول العربية التي تعتمد على مساعدات الدول العربية النفطية، والدول الغربية، خصوصا أميركا، فالمواطن العربي هو ابن الدولة، والدولة هي والداه، وهي التي تُطعمه، وتسقيه، وتُربّيه، وتُطعمه، ثم تُميتُه متى شاءت! والاقتصاد "الريعي"، لا يتجلّى، ولا يُدمِّرُ فرداً، كما يتجلّى ويُدمر الفرد، في العالم العربي.فيقول هذا التقرير إن العراقيين- كما هي الحال في معظم الدول العربية- يعتمدون على الخدمات الاجتماعية الممنوحة مركزياً لهم، كالماء، والتعليم، والصحة، والنقل العمومي. وقد تحوَّل النقصُ في الكهرباء والبنزين إلى سخط شعبي عام، وقد يصبح مصدراً لاعتراضات شعبية ومسلحة، كما قد تتفاقم هذه الاعتراضات بفعل رفع الدعم الشامل عن أسعار السلع الأساسية، بعد أن اعتاد الشعب العراقي- كما باقي العرب- على "الرضاعة الريعية".كما أن مفجرات النزاع، يمكن أن تنشأ وتقوم وهي- قائمة أو كامنة- من أفعال المتمردين الإرهابيين، والمجموعات المتطرفة التي كثُرت وظهرت في العراق بعد 2003. كما أن الاحتقان السياسي- كما هي الحال الآن- قد يدفع إلى زيادة المخاطر، وعمليات الإرهاب، ورفع نسبة الفساد، التي وصلت الآن إلى أعلى معدلاتها. * كاتب أردني
مقالات
التقييم الاستراتيجي لديناميكيات النزاع في العراق
16-06-2010