مازق رواية التاريخ
أظن أن الحياد المطلق، يكاد يكون مستحيلاً، في أي كتابة، فحين يكتب الإنسان، فإنما يترجم مشاعره وآراءه وأهواءه، وهو في كل ذلك لا يستطيع أن ينزع عنه جلده وميوله ومعتقداته وبالتأكيد مصالحه. وأظن أيضاً أن هذا مشروعٌ ومسوغٌ للكاتب/الإنسان، إلا في تغليب مصالحه الشخصية على حقيقة الأمور، وتقديمها بشكلٍ يجافي ويجور على الواقع، ويبتعد عن الموضوعية والصدق.
لقد جاءت كتب التاريخ بأصوات مؤلفيها، وكانت على الدوام تُقدِّم صوراً لإراداتهم، وإرادة مَن يقف خلفهم، ويقدِّم الدعم الإنساني والمالي لمشاريعهم الكتابية. فتبايُن وجهة نظر المؤرخين حيال حدثٍ تاريخي بعينه، يرجع إلى القلم الذي خاض في نقل ذلك الحدث، ومصالحه وموقعه. لذا نجد مَن يمجّد حدثاً بعينه ويعتبره انتصاراً وفتحاً للأمة، بينما يكتب آخر واصفاً الحدث ذاته، بأنه انكسار وانهزام وكارثة جرّت الويلات على الأمة. والأمر يتخذ بُعداً مختلفاً في جنس الرواية.تُشكّل الرواية في وقتنا الراهن كتاب التاريخ الأهم للقارئ، لكن أهم ما يفرق الرواية عن كتب التاريخ، أن كتب التاريخ تسرد الوقائع التاريخية زاعمةً توخي تبيان الحقيقة، بينما تسير الرواية في دربها الماكر، طارقة باب قلوبنا، جاعلة منا مشاركين في عبور عوالمها، وهكذا يبقى القارئ على مسافة من كتب التاريخ، بينما يخوض «كالمنوَام» في الرواية مشاركاً ولاهثاً ومتأثراً، وذاك ما يفرق الفن عن العلم، وذاك ما يمنح الفن سحره الذي لا ينفك يلازمه، دافعاً البشر إلى الركض خلفه. رواية «ملائكة الجنوب» للكاتب نجم والي، الصادرة في طبعتها الأولى 2009، عن دار كليم، تشكل مأزقاً في موضوعها، ومأزقاً في كتابتها. «ملائكة الجنوب»، التي تبدو للوهلة الأولى قصة حب وصداقة، هي قصة مدينة «عماريا» التي تقع في جنوب العراق. وموضوعها المأزق هو كشف أحوال الجالية اليهودية في العراق، وخفايا هجرتها إلى إسرائيل في الأربعينيات والخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي، وهي مأزق في كتابتها، لأنها تتوخى الاستناد إلى الحقائق التاريخية، في موضوعٍ مازال يثير المواجع في الوجدان العربي، بحكم العلاقة التاريخية المرسومة بالقتل والدم بين العربي واليهودي الإسرائيلي، واستمرار العدوان الوحشي الإسرائيلي اليومي على الأشقاء الفلسطينيين.نجم والي ككاتب، كان إشكالياً في أكثر من عمل روائي كتبه، إن بحكم تناوله لأحداثٍ تاريخية مختَلَف عليها، أو بحكم اللغة الروائية العارية والصادمة التي تناول فيها هذه الأحداث، ولقد أخذت إشكاليته وضعاً خاصاً ومعقداً عقب زيارته لإسرائيل عام 2007، ومشاركته في مؤتمر إسرائيلي على هامش معرض الكتاب، وإجرائه للقاء صحافي في جريدة «يديعوت أحرونوت».إن الموضوعية، تُطالبنا نحن القراء، بمحاولة التحلي بروح التروّي في قراءة أعمال كأعمال نجم والي، وعدم خلط مسلك كاتبها وقناعاته، بموضوع الرواية، وفنيتها، وقدرتها على تقديم عوالمها حسب أصول الجنس الروائي.رواية «ملائكة الجنوب» قد تُقرأ في أكثر من مستوى، فهي تفتح باباً واسعاً على نجم والي في اتهامه باستمرار محاولته التقرب والتملق لليهود، خاصة بعد ترجمة عملين روائيين له في الولايات المتحدة الأميركية. وهي قد تفتح عليه باباً آخر في تقديم حدث تاريخي ملتبس، كهجرة اليهود العراقيين، بصيغة روائية محبوكة، بما يؤدي إلى تعاطف القارئ مع أبطاله: ملائكة، وملاك، ونعيم، والطبيب كبّاي. لكن هذا -مجتمِعاً- يجب ألا يُعمي عين القارئ الفاحص عن حبكة الرواية، وشبكة نسيجها الفني، وقدرتها على تقديم عوالمها. وأخيراً حق مؤلفها في كتابة ما يشاء مادام يكتب بقلمه وقناعاته، متحملاً وحده كل ما يترتب على كتاباته، أياً كان مذاقها المر!