لم تشهد السياسات الانتخابية هذا القدر من التقلبات يوماً، فهذه الانتخابات ليست الأكثر انفتاحاً على جميع الاحتمالات منذ العشرينيات فحسب، بل تشير الشكوك السائدة إلى استياء عارم أيضاً، وحتى قبل فضيحة النفقات، لطالما ارتكز نظام الأحزاب على أساس سطحي من الإجماع العام، لكن بات الوضع الآن أسوأ بكثير، فأصبح المزاج المعادي للسياسيين غير منطقي، وهو يُعنى بمصالحه الخاصة حصراً، لكنه يُحكم قبضته على الرأي العام، ولن يتغير هذا الوضع على الأرجح خلال أسبوعين ونصف تقريباً.
من غير المنطقي أيضاً أن يستفيد الليبراليون من هذا الوضع، لكنهم سيستفيدون كالعادة، وطوال سنوات، قدّم الليبراليون أنفسهم على أنهم حزب غير سياسي ونجحوا في مسيرتهم، وهو أمر سخيف، وفي المعنى السلبي لعبارة "السياسي الحقير" التي استعملها شكسبير، إنه حزب سياسي من الدرجة الأولى مقارنةً بالأحزاب الأخرى، وسيتفوّه الليبراليون بأي كلام لكسب الأصوات، كما أنه في الحزبين الأساسيين في البلاد، انطلق معظم السياسيين على الأقل من مجموعة قناعات، فيكفي أن نتكلّم معهم لنفهم السبب الذي دفعهم إلى دخول معترك السياسة والانضمام إلى حزبهم، لكن الأمر أصعب بكثير مع الليبراليين.لكن يصعب إقناع الناخبين بذلك، ويبقى الوهم القائل إن الليبراليين هم الحزب الأكثر احتراماً مترسخاً بعمق في عقول المواطنين، ويعني ذلك أنه كلما تعرض الليبراليون للهجوم، يمكنهم اللجوء فوراً إلى استراتيجية النفاق، فيقولون مثلاً، "أَوَليس هؤلاء السياسيون سيئون؟"، وسيصدق الرأي العام هذه الأقاويل بسهولة. قال كريس باتين مرة إن محاولة التجادل مع الليبراليين مجازفة كبرى، فالأمر يشبه إهانة رجل دين والموافقة على خوض معركة خاسرة. ربما كان اللورد باتين يتكلم عن سابق معرفة، وسرعان ما خسر مقعده لمصلحة الليبراليين.يبدو أن الليبراليين قادرون على الإفلات من أي مأزق، فخلال مناظرة يوم الخميس، أعلن نيك كليغ أن وزارة الدفاع تضم 8 آلاف بيروقراطي يعملون في مجال الاتصالات، وحين كنت أستمع إلى كلامه، فكرت بالآتي: "ماذا؟ لا يمكن أن يكون محقاً، ونعلم جيداً أن الحكومة تقلص نفقاتها، فالأمر سخيف". فعلاً! يبلغ الرقم الحقيقي 178 شخصاً: ولايزال العدد مرتفعاً لكن ليس إلى حد جنوني. تفوه كليغ بـ40 واقعة مبالغاً فيها، لكنها لم تكن أسوأ ما ارتكبه، فكان عدد 8 آلاف مشكوكاً فيه، وكل من يصدّقه يعاني بلا شك اختلالاً في حسه المنطقي.لن تسهل محاكمته بسبب هذه الادعاءات، لكن توجد طريقة أخرى قد تلقى صدىً واسعاً عند الرأي العام لهزم الليبراليين، إذ يقترح كليغ إصدار عفو عام بحق 600 ألف مهاجر غير شرعي، وتساهم التجربة التي عاشتها البلدان الأخرى في توضيح طريقة التفكير الآتية: تجذب أحكام العفو العام المهاجرين غير الشرعيين كما يجذب النور الفراشة، وسيقول مهربو البشر: "سنهربك إلى بريطانيا. بعدها لن تضطر إلى الانتظار طويلاً حتى صدور حكم العفو المقبل". نادراً ما يفكّر الليبراليون بعواقب سياساتهم، مع أنهم لا يدركون ذلك، لكنهم في الواقع يدعون إلى هجرة من دون ضوابط.يوم الخميس، سيضطر ديفيد كاميرون إلى التعامل مع المشكلة التي ذكرها كريس باتين، وسيضطر كاميرون إلى التصرف بصرامة أكبر من تلك التي أظهرها في الأسبوع الماضي، من دون تعريض نفسه لتهمة استغلال السلطة، كذلك، سيضطر إلى التعامل بقساوة مع الليبراليين، بالإضافة إلى الحفاظ على ابتسامة على وجهه. ليست المهمة سهلة، لكن ديفيد كاميرون معتاد على ذلك.يبقى هذا التحدي أسهل من الذي يواجهه بعض السياسيين الآخرين، ويستطيع ديفيد كاميرون الارتقاء بلعبته السياسية، ويستطيع نيك كليغ تقديم أداء جيد مجدداً، ولكن ماذا عن غوردون براون؟ لقد قام هذا الأخير بكل ما أوصاه به اللورد بيتر مانديلسون (ماندي)، بالإضافة إلى ذكر بعض النقاط الجدلية المهمة، وكذلك إلقاء بعض الدعابات، حتى أنه ذهب إلى حدّ الانتقاص من قيمته الذاتية، وطوال فترة كلامه، حاول الابتسام، لكنّ النقاط التي تكلّم بها لم تُصِب الهدف، وكانت الدعابات التي ألقاها سطحية، وكانت ابتسامته مصطنعة. باختصار، لم ينجح في شيء، فكان رئيس الحكومة في أفضل موقع على الإطلاق، لكنه بدا مسناً ومرهقاً وكئيباً، ولن يتغيّر هذا الوضع مطلقاً. ومع ذلك، هو لا يستحق الشفقة، ومنذ أيام قليلة، ارتكب حزبه أسوأ مجازفة في تاريخ السياسة البريطانية حين قال إنّ أي شخص مصاب بالسرطان يواجه ضغطاً نفسياً هائلاً، فأحياناً تصبح نسبة الخطر الطبيعية موازية لأضعاف حجمها الحقيقي. يسهل تخويف مرضى السرطان، وقد أصبح الموظفون في مقر حزب العمال في حالة ترقب شديدة بسبب ما قيل، ومنذ بضعة أيام، تلقى حوالي 200 ألف مصاب بالسرطان رسالة من حزب العمال يدعي فيها أن المحافظين سيحرمون مرضى السرطان من العلاج الذي يحتاجون إليه.لا يمت هذا الادعاء إلى الواقع بِصلة، بل على العكس: سيضمن المحافظون، كجزء من التزامهم بميزانية الخدمات الصحية الوطنية، وحصول مرضى السرطان على الأدوية غير المتوافرة راهناً بأسعار التكلفة، فمن يحاول استغلال المرض بهذه الطريقة هو مريض حتماً ويعاني تحديداً سرطانا أخلاقيا، فقد اتهم غوردون براون "بنك غولدمان ساكس" بالإفلاس الأخلاقي، وهي كلمات قوية لم تكن مجحفة كما كان متوقعاً، فأي لهجة سيستعمل إذن لوصف الطريقة التي اعتمدها حزبه لاستغلال الأشخاص المرضى فعلاً؟ في المرة المقبلة التي سيشيد فيها براون بالقيم التي تعلمها في رعيّته الاسكوتلاندييين، تذكروا مرضى السرطان. قبل مغادرته السلطة، يبدو رئيس الحكومة مصمماً على استنزاف حالة النفاق والعار السائدة.ربما خالف حزبه القانون، ولكن من طلب أسماء المرضى وعناوينهم؟ كيف حصل ذلك؟ يوجد قانون خاص بحماية البيانات ويستحقّ المرضى التمتع بحمايته. لابد من حصول تحقيق معمق في الموضوع تليه محاكمات جدية، وقد يؤدي سجن المسؤولين عما حصل إلى ردع الشخصيات الشريرة الأخرى عن القيام بالمثل.بالنسبة إلى غوردون، قد تتدهور الأمور أكثر فيما بعد، فمع أن بيتر ماندلسون يُظهر شجاعة كبرى، فإن الجميع يرغب في معرفة ما يفكّر به فعلياً، ففي النهاية، هو المسؤول- لضمان استمرارية غوردون براون- في الواقع، كان المتآمرون غير أكفاء، فهم لم يتكاتفوا ولم يهاجموا معاً، بل تعرضوا للهزيمة وحوكموا واحداً تلو الآخر، حتى أن البعض رضخوا مذلولين لجماعات الضغط الزائفة، لكنّ حذاقة ماندي اللامتناهية وغير المباشرة- تحمل الحذاقة هنا معنى الإطراء من جهة والخطر من جهة أخرى- أثّرت في الوضع بشكل كبير. هو أنقذ غوردون وساهم في حلول حزب العمال في المرتبة الثالثة في التصويت الشعبي: لكنها ليست المساهمة التي أراد اللورد ماندلسون القيام بها، فمن خلال ضمان أن يخوض براون هذه الانتخابات بصفته رئيس حكومة، قد يكون ساعد نيك كليغ على دخول المعركة بصفته قائد المعارضة.* Bruce Anderson
مقالات
لا تنخدعوا بـ«لطف» كليغ
22-04-2010