مضت عشرة أيام منذ النفس الأخير، زارني خلالها بين ساعة وأخرى وحضرت تفاصيله معه، دشداشة البيت، القحفية، العصا، علامة الخد، قبضة اليد، الساعة الفضية، وفي كل زيارة يخفت النور وتضب الصورة أكثر وتتلاشى بعض التفاصيل.
كيف لإنسان أن يجعل العمر يبدو سهل المعاش؟ وكيف لاثنين وثمانين عاما مديدة أن تبدو كخط مستقيم بلا تعرج ولف ودوران؟ فيه أمور الحياة واضحة ومحسومة. الخطأ بيّن والصواب بيّن، لا ضباب يلفهما ولا مناطق رمادية تفصلهما. شيّد بيتاً عامراً وكان كالشجرة الوارفة فيه، يستظل تحتها أبناؤه وأحفاده كل جمعة لأكثر من ثلاثة عقود دونما انقطاع. كان مرجعاً للجميع، ولا يكون المرجع مرجعاً إلا إذا انتهى عنده المسعى إلى الجواب والطمأنينة، فكان مرجعاً بتواضع علمه وعمق خبرته، ببساطته وهدوئه، بحسمه وتسامحه، بتدينه وانفتاحه، بصوته وبسمة شفتيه، بحضوره ولمسة يديه، بعقله البصير وقلبه الكبير. غاب مرجعي، رحل كما عاش بهدوء وتواضع من دون تكلف أو تكليف، كان سهلاً ممتنعاً، من النوع الذي لا تعرف قيمته حقاً إلا بعدما تفقده، ازداد هدوءاً وانكفاءً مع اقتراب النهاية، مارس نشاطه اليومي لوحده ولم يلاحظه أحد واقتصر تأثيره عليه، يجهر بتلاوة القرآن بصوته النافذ من غرفته، يمكث لساعات فيها يراجع مراسلات بيت الزكاة ويدون حسابات الجمعية ورواتب الخدم، يصلي العشاء في المسجد بانتظام، يحوم حول البيت ليلاً يتلو آية الكرسي والمعوذات ويدعو لتحرس عيون الرحمن منامنا، كلها أشياء رمزية قام بها لوحده لم تؤثر بي في حياته وأمسى يؤثر بي انقطاعها. خلا البيت، وبات يسكنه فراغ موحش، من سأصبح بوجهه؟ من سيحضر لي الجريدة لآخذها معي إلى العمل؟ من سيجلس عند رأس طاولة الغداء؟ من سيتلو عليّ ملخص أخبار الصحف؟ من سيتصل بـ«كونا» لسماع نشرة الوفيات؟ من سيتجادل مع الزراع؟ كيف سأدخل البيت كل يوم ولا أراه جالساً بزاويته في الصالة مواجهاً الباب؟ مضت عشرة أيام منذ النفس الأخير، زارني خلالها بين ساعة وأخرى وحضرت تفاصيله معه، دشداشة البيت، القحفية، العصا، علامة الخد، قبضة اليد، الساعة الفضية، نوكيا القديم، كرسي المصحف، دفاتر الحسابات، وفي كل زيارة يخفت النور وتضب الصورة أكثر وتتلاشى بعض التفاصيل. رحل أب الجميع، المحترم الخيّر، الوفي الحنون، غاب فانحسر رصيد الخير والطيبة في الدنيا جذرياً، رحل من ربّاني وعوض فقدي، ومن احتضنني في بيته لسبعة وعشرين عاما ومازال، رحل من خصّني بحضوره في المطار يوم سفري للبعثة ويوم عودتي بعد التخرج، ومن تواجد قبل الجرس بنصف ساعة حتى يضمن موقفاً قريباً من باب المدرسة رائفاً بي من الشمس الحارقة والحقيبة الثقيلة. غاب جدي وأبي وحبيبي، غاب مرجعي وسندي وصديقي، رحل الغالي، غاب بابا بدر.***غبت فغابت راحتي واطمئناني، قضيت عمراً حافلاً وجمعت حولك حباً تحسد عليهما، وحانت ساعة راحتك، ولكن لم تكد تمضي عشرة أيام فقط وها أنا أتحرق شوقاً، لا تقاطع، بحق من أنت بعنايته الآن، زُرني ولا تقاطع.* إلى روح جدي الغالي بدر يعقوب يوسف أبوغيث. (1927-2009) كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
غاب البدر
07-01-2010