يُشار على نحو متزايد إلى الحرب في العراق بـ"الحرب المنسية"، وذلك بسبب تحويل الولايات المتحدة اهتمامها ومواردها إلى مسارح أخرى، بما فيها أفغانستان، وتعب المجتمع الدولي ووسائل الإعلام من صراع لا نهاية واضحة له، لكن اللوم يقع أيضاً على المطبات التي تواجه عملية إعادة السياسات العراقية إلى طبيعتها.
تتكشّف اليوم حلقة مهمة في التاريخ العراقي، إذ سيتوجه العراقيون في السابع من مارس إلى مراكز الاقتراع لانتخاب مجلس وطني جديد، ومن شأن طريقة هذه الانتخابات، ونتائجها، وما سيليها تبرير التفاؤل النسبي بشأن مسار البلاد أو دحضه. حتى اليوم تتقدم الحملة الانتخابية بحرية وبشكل سلمي نسبياً، مقارنةً بأعمال العنف والفظائع الطائفية التي اجتاحت البلاد منذ بضع سنوات فقط.فوفقاً لاستطلاعات الرأي الأميركية والعراقية الأخيرة التي اطلع عليها الصحافي العراقي حسين عبدالحسين، يُتوقّع أن تأتي القائمة التي يرأسها رئيس الوزراء الراهن نوري المالكي وتُعرَف بـ"دولة القانون" في الصدارة، وأن تفوز بنحو 80 من أصل 325 مقعداً في مجلس النواب العراقي. في المقابل، قد تحل لائحة إياد علاوي في المركز الثاني بنحو 70 مقعداً. يُذكَر أن علاوي رئيس وزراء سابق يرأس قائمة متعددة الطوائف تضمنت في البداية المرشّح صالح المطلق الذي شُطب اسمه فضلاً عن شخصيات سُنيّة أخرى بارزة، أما قائمة الائتلاف الوطني العراقي، التي تضم المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، التيار الصدري، وغيره من الحركات الشيعية، فقد تحل في المركز الثالث بنحو 60 مقعداً.لكن العملية الانتخابية تشوّهت مسبقاً بسبب الأنشطة السياسية الطائفية التي تستهدف العناصر الأكثر قوميةً والأقل طائفيةً في البلاد. فقد لطّخت حملة متواصلة إنما ضيقة أفق ضد أعضاء سابقين في حزب البعث، صورة المصالحة والشمولية الظاهرتين بشكل يتعذر تصحيحه، وستكون بالتالي للعملية المثيرة للجدل المتمثلة في منع الأشخاص الذين غالباً ما تربطهم صلة ضعيفة بحزب البعث من الترشّح، وفك الحظر عنهم، ومنعهم مجدداً من الترشح، آثارها حتى بعد انتهاء الانتخابات. فقد تصدرت الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات العراقية المقبلة من قبل المطلق، أبرز ضحاياها العناوين الرئيسة، وبلورت حالة الامتعاض لدى عراقيين كثر بسبب هذا التلاعب الفاضح بعملية الانتخاب.وتأكد صدق مظالم المطلق بشكل إضافي بعد الاعتراف المفاجئ لمسؤولين أميركيين بارزين بأن اللجنة التي أسقطت حقّه بالانتخاب، فضلاً عن آخرين غيره، كانت تخضع بشكل أساسي لسيطرة شخصين يقومان بترشيح أحزاب عراقية منحازة إلى إيران، وأحدهما السيئ الصيت أحمد الجلبي. فضلاً عن ذلك، تبدو قلّة من العراقيين على استعداد لتلبية دعوات المطلق، بمن فيهم أفراد كثر في الطائفة السُنية التي فقدت سلطتها السياسية تدريجياً. لهذا السبب قد يصبح المطلق كبش فداء في طائفته، ولاشك أن مشاعر الامتعاض الناجمة عن استبعاده حقيقية، لكن التعبئة السياسية التي ستلي قد تحفّز على نحو مناقض المرشحين القوميين والسُنّة، فكثيرون من أعضاء حزبه لم يلبوا دعوته على الرغم من تعاطفهم مع مصيره. فهذه الطائفة تدرك أن استبعاده المتعمد أضر بمكانتها وقدرتها على تشكيل هوية البلاد، وأن الكفاح المسلح ولد نتائج معاكسة واستهدف أيضاً العدو الخطأ (الدولة التي تحتل الأرض، الولايات المتحدة، بدلاً من تلك التي تتحكم بسياسة البلاد، إيران).مع ذلك، العراق ماض في القتال من أجل مستقبله، فقد يكون السياسيون المؤيدون لإيران قادرين على استبعاد بعض خصومهم، لكنهم شهدوا في العموم إخفاقات كبيرة. اتضحت حدود النفوذ الإيراني بعد موافقة البرلمان العراقي على اتفاقية وضع القوات مع الولايات المتحدة على الرغم من الاعتراضات الإيرانية، والأداء السيئ للأحزاب المؤيدة لإيران في انتخابات المحافظات في عام 2009 والقرار الذي اتخذه المالكي بعدم الانضمام إلى الائتلاف الشيعي الموحد.من المحتمل جداً أن يكون حلفاء إيران قد استخدموا لجنة حل حزب البعث للتصدي لهذه الضربات والمشاعر المعادية على نحو متزايد لإيران بين السكان.قد تكون التحذيرات من وشوك سيطرة إيران على العراق سياسة ذكية إنما مفرطة التشاؤم. تظهر القوائم الانتخابية المختلفة مدى انقسام الساحة العراقية، ولعل الخطأ الأكبر هو الاستمرار في قراءة السياسات العراقية من منظور الخصومات الطائفية فحسب.فقد التقى علاوي العاهل السعودي، الملك عبدالله، في إشارة عالية الرمزية إلى الطائفة السُنيّة، والتقى المالكي نفسه أحد شركائه السُنّة، وزير الدفاع عبدالقادر عبيدي، الذي مُنع من الترشّح بسبب روابطه القديمة مع حزب البعث. لم يكن المالكي راضياً عن هذا الحظر، لكنه أيده في النهاية خشية فقدانه حصته من قاعدته الشيعية وتسليمها إلى الائتلاف الوطني العراقي.لهذا قد يستسنخ العراقيون، الذين تُركوا لأساليبهم الخاصة، السياسات المتجمّدة والمعطّلة في لبنان، حيث تعيق الاعتبارات الطائفية الهشة التقدم في مسائل الحوكمة إلى أن تنفجر موجة عنف، وما من شك في أن قدرة الولايات المتحدة على تحديد النتائج السياسية في العراق تقلّصت إلى حد كبير، لكن الضغط الأميركي هو الذي أتاح إجراء الانتخابات في موعدها.مع ذلك، يبحث الأميركيون عن طرق للانسحاب من العراق، ويبدون استعداداً متزايداً لإدارة سياساته، فمن وجهة نظر واشنطن، لا يجب أن يسمح أي شيء بإعاقة الانسحاب الأميركي التدريجي من العراق، الذي يعتبر هدفاً أساسياً ضمن أهداف إدارة أوباما. هذا ورفضت الولايات المتحدة التشكيك في شرعية العملية الانتخابية، على الرغم من أن القائد الأعلى الأميركي في العراق، الجنرال راي أودييرنو، قال الاثنين الماضي إن الولايات المتحدة قد تبطئ عملية سحب جنودها في حال الضرورة. وقد بات مظهر السيادة العراقية والتقدم السياسي عنصراً أساسياً من استراتيجية الخروج الأميركية، بينما يشكّل قيام حكومة عراقية دائمة عنصراً آخر، لكن نتائج الانتخابات لن تكون الاختبار النهائي أمام نجاح الولايات المتحدة، فضلاً عن أن عملية تشكيل حكومة جديدة تنبئ بعمل مضن.* إميل الحكيم | Emile Hokayem
مقالات
ديمقراطية العراق ليست دموية إنما فوضوية
01-03-2010