منذ أيام شاركت رزان ملاكي الصغير في مسابقة شوبان للبيانو، وراقبتها والحضور أثناء أدائها الاستثنائي لجزء من مقطوعة شوبان Polonaise لعام 1821... أرى أصابعها الرقيقة تتداخل وأصابع البيانو حتى لا يمكن الفصل بينهما، وأتذكر يوم بدأت التدريب وأحضرت النوتة الموسيقية كم كانت معقدة ومتداخلة علاماتها... أراها تعزف وأتعجب لقدرة المخ الإنساني العظيم في فك شفرة هذه النوتات وتحويلها إلى أوامر منفصلة لليد اليمنى واليد اليسرى لتلعبا في نفس الوقت بتناغم مدهش، وبنفس الوقت يتذكر أن يأمر القدم للتحكم بطول موجة الصوت عبر دواسات البيانو في اللحظات المناسبة، وأثناء ذلك كله يعمل المخ مع اليدين على المحافظة على انتظام الإيقاع ودرجة الصوت، وأتخيل كم عدد الومضات الكهربائية التي تضيء مخ ابنتي الصغيرة في الجزء الألف من الثانية؟ وكم من الروابط العصبية والشبكات خلقها هذا التدريب المتواصل على هذه الرياضة العقلية المجهدة؟ وهل لذلك علاقة مباشرة بتفوقها الدراسي بشكل عام وفي الرياضيات بشكل خاص كما تشير الكثير من الدراسات؟

Ad

ومن ملاكي أنقل انتباهي إلى الجمهور الذي جاء بكل ألوان العالم من الأعمار والأجناس والجنسيات، فأراهم في إنصات وخشوع وتجل روحاني لم أشهده في كنيسة أو مسجد، وأرى تفاعلهم المتحد مع اللغة التي يشتركون في فهمها، وأتساءل ما أثر ذلك على تقارب الشعوب ووجهات النظر؟ هل يمكن للروح الإنسانية ان تسمو دون كلام وتعليمات وعقائد؟ وهل يمكن للموسيقى أن تجمع ما فرقته السياسة والدين؟

وسرح خيالي لشوبان في القرن التاسع عشر حين ألف هذه المقطوعة وهو في السابعة من عمره، كيف حول ورقة بيضاء بخمسة خطوط أفقية إلى رائعة نادرة حتى بمقاييس القرن الحادي والعشرين؟ وما الظروف التي أحاطت به؟ وكيف وصلت إبداعاته إلينا؟ وكم من الشوبانات خلقوا في وطننا العربي وقتلناهم بالفقر والحرب والحلال والحرام؟ وكيف ستكون حالنا لو أننا تبنينا كل المواهب الصغيرة واحتضناها وطورناها؟ هل سيبقى فينا الكره والإرهاب؟

نخرج من المسابقة لأتذكر أننا في الكويت، ولتعود إلى ذهني الإثارة الدورية لتحريم الموسيقى وإيقاف مناهج تدريسها، وأتأكد أن مثيري هذه الحملات لا يمكن أن يكونوا أسوياء عقلياً، فلا عاقل يجادل في روعة وأهمية هذه الملكة الإنسانية وفي أثارها الروحانية والأكاديمية، فإن كانوا معاقين عقلياً كما هم معاقون نفسياً وإنسانياً فلا داعي لإضاعة الوقت الثمين في الحوار معهم!

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة