اليوم ليس يوم الحديث عن خطورة هذه الفتن الفئوية والطائفية التي لا تنفك تضربنا تباعاً بشكل أكثر إيلاماً في كل مرة، فقد كتبت عن هذا عشرات المرات من عين هذه الزاوية وقلته عبر منابر أخرى، وتكراره اليوم سيكون ككلام بائت بارد بلا طعم لا يسمن ولا يغني من جوع!
إن الوقت الآن ما عادت التصريحات والتنبيهات والتحذيرات والتحقيقات الصحفية الباهتة المتكررة حول «استمزاج» الآراء عن الفتنة ومثيريها تجدي فيه، بل هو «أوان الشد فاشتدي زيم»، وصار لزاماً على «السلطة» أن ترفع نظرها عن موضع الأقدام، فتنظر إلى أبعد من خطواتها التي لم تتجاوز ردات الفعل منذ عهد بعيد، لتدرك أن المصيبة أعظم وأكبر بكثير من هذه القناة وصاحبها، وأن ما يجري في الحقيقة ليس إلا تفجيراً جديداً من سلسلة فتن بدأت منذ وقت ليس بالقصير، ولا يراد لها أن تنتهي، يديرها من وراء الكواليس من لا يدركون خطورتها على بقاء كيان الدولة، وأعني بذلك كل المفاصل، من دولة المؤسسات والولاء والاستقرار الشعبي وقبل ذلك كله أسرة الحكم!قلت إن من يدير هذه الفتن ويشعلها، قد لا يدرك خطورة الأمر على كيان الدولة، ولكن هناك من قال لي إن مَن يقف خلفها يدرك خطورتها جيداً، وإن صح هذا فالمصيبة أشد وأعظم، لأنه حينها تدمير مع سبق الإصرار والترصد، سيطول كل شيء، وسيأتي على الجميع، في ظل سلطة دأبت على التقليل من خطورة هذه الفتن وتساهلت معها حتى استفحشت بتكاثر شذاذ الآفاق والمأفونين الساقطين الذين أمِنوا العقوبة فأساؤوا الأدب.إن كانت الفتن الطائفية التي كثيراً ما أثيرت بين الكويتيين السُنّة والشيعة، لم تخرج عن السيطرة برحمة من الله، فإن الفتنة اليوم تتوجه نحو شرائح كبرى من المجتمع، بل هي الشرائح الأكبر، وإن كانت مسيرة عفوية سلمية صغيرة انطلقت من ديوان النائب مسلم البراك، ببضعة آلاف رجل غلت دماؤهم بالأمس، قد أغلقت الطريق الدائري الخامس وشلت حركته، فما بالكم بما سيحصل مع استمرار تدحرج كرة الثلج، واستمرار الاستفزاز وتصاعد غليان الدم في ظل تراخي الإجراءات تجاه مثيري الفتنة؟!إن الوضع خطير جدا، والمسألة تتعدى «جزئيات» ما طرحته هذه القناة وصاحبها، وتتجاوز «المفردات» الساقطة التي جاء بها، والظرف عصيب ولا يسمح بقبول ذاك الطرح الساذج بأن هذا الشخص لا يمثل إلا نفسه، ولا مجال الآن للاستماع لتلك الفكرة الفلسفية «المسترخية» بأن ما بدر منه ما هو إلا نتاج لذات مجتمعه الذي صنعه عبر نفس الممارسات والعنصرية، فليس هذا وقت «بطر» حتى نقلب هذه الأفكار.إن العقول الراشدة تقيس الأزمات بحدتها، وبما قد تفضي إليه من مصائب، وما حصل ليس مجرد رأي شاذ من ساقط فاقد للأهلية جلس يثرثر بين أصحابه، بل هي آراء متتابعة من شخص لطالما احتضنته وسائل إعلام وللأسف، توجهاً بانطلاق قناته الفضائية مشعلاً نار الفتنة، وملوحاً بفضيحة انفلاتنا السياسي والأمني والإعلامي، أمام أمم الأرض. والأمرّ والأشد والأنكى أن هذا الشخص لا يمكن لأي أحد أن يقبل بغير فكرة أنه «مسنود» ومدعوم ومحمي من شخصيات نافذة، وهذه لعمري كارثة كبرى!إن ما نحن فيه اليوم أشبه ما يكون بسفينة تغرق وقد تودي بكل من على ظهرها، لذا فليس الوقت وقت التفكر «والتفلسف» في الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا المستوى، بل هو وقت «الشد» والجد والضرب بيد صاعقة، تقتل الفتنة وتعاقب كل من يديرونها وترمي بهم خلف القضبان، وبعدها وبعدما تنجلي الغمة ويسكن هدير العاصفة التي تزمجر اليوم مهددة باقتلاعنا جميعا، يمكن لنا، بل يجب علينا، أن نجلس ونتفكر ونتباحث حول أخطاء كل الأطراف، وكيف يمكن لنا أن نعالجها على مستوياتها الثقافية والفكرية.بكل مباشرة وصراحة أقولها، إن كانت النيابة العامة قد مارست في يوم من الأيام أقصى ما أتاحه لها القانون في التحقيق مع الكاتب محمد عبدالقادر الجاسم على خلفية ما اتُهم به من المساس بشخص رئيس الوزراء فاحتجزته لمدة طويلة على ذمة التحقيق، فإن هذا المأفون الجاهل قد تعرض لكل الكويت حين هدد نسيجها الاجتماعي ويستحق بذلك تطبيق أشد ما يتيحه القانون في حقه والقبض عليه عاجلاً دون إبطاء.إن المسألة اليوم ما هي إلا اختبار مباشر لمصداقية «السلطة» تجاه حماية هذا الوطن والمحافظة على وحدة شعبه، وإن هي تراخت في القيام بدورها الذي لن يقبل إلا أن يكون صارماً وقاطعاً وعاجلاً، وتلكأت لأي ذريعة كانت، فلا يلومن أحد الناس، كل الناس، إن هم ألقوا من أعناقهم «بيعة» الدولة ومعها كل مفردات المواطنة وشعارات ترجيح العقل، ولاذوا بقبائلهم وعشائرهم وطوائفهم وتحزموا لأخذ حقوقهم بأيديهم، فعلى مر الزمان كان العهد الذي بين الشعوب وأنظمتها الحاكمة، أن ترعاهم وتوفر لهم الأمن وتحمي كرامتهم، فإن فشلت في ذلك، فلا عهد ولا بيعة!
مقالات
هيبة السلطة... ما بين الجاهل والجاسم!
22-12-2009