غالباً ما يتشابه الكاتب مع روح ما يكتبه، وتصبح كتابته تشبهه أو يبات هو شبيهاً بها، لكن أن تتطابق شخصية الرسام مع ما يرسمه فهي الحالة الأصعب والأكثر تمويهاً، وذلك لتنوع المادة المرسومة واختلاف مضامينها. فمثلاً غرابة شخصية سلفادور دالي انطبقت تماماً مع غرائبية رسوماته، وهو واحد من أهم الرسامين الذين طغت شخصيتهم على مهنتهم.
ومن عالمنا العربي نجد الفنان والصديق العزيز عدلي رزق الله نموذجاً واضحاً لما أشرت إليه، فكائنات عدلي الفنية هي ذاتها عدلي رزق الله، تطابقت وتماهت معه، حتى تكاد تحس بروحه وبنبضات قلبه تدق من خلالها. فتلك المخلوقات النورانية الطائرة في خفة شفافيتها، المرفرفة في أجنحة من هلام مضيء، ومن رقة تلامس الروح مثل نسمة عابرة تحط برفرفتها على الرائي لها، حتى ترفعه من مستوى الثقل إلى الشعور بالخفة، وبملامسة هذه الكائنات الفالتة من كل قيود الحياة الراسخة في طين قوانينها وخداعها، وكذبها، وغرورها، وكل ماديتها الملتصقة في أنياب الدنيا. هذه المخلوقات الآتية من الخفة والنور، ومن أجنحة اليعاسيب وومضة الحباحب، ومن بتلات البراعم وأوراق الورد، ومن اضطرام الشغف والأشواق المحلقة في فضاءات أوسع وأرحب من مادة الورق المشدود، رفرفت في شساعة الروح، تخطت الحيز الضيق للرؤية والمشاهدة في مجال بصري محدود، وهامت في تلك المطارح المشارفة على بوابات المجد والخلود، فريشة عدلي رزق الله منحتها أجنحة طارت بها وحلقت حول العالم الغربي والعربي، ورقشت اسمه في مكانة يستحقها الفنان القدير صاحب البصمة الفنية المميزة، الإنسان الدمث والخلوق، الساكن في رقة شفافية روح الفنان المتماهي في فنه. الصديق الذي عرفته منذ أكثر من 20 عاماً، بقي كما عهدته منذ لقائنا الأول في وكالة الغوري إن لم تخني الذاكرة، حيث التقيت به عند تلك البوابة التاريخية، إذ فاجأني الصبية الصغار بثعبان ميت، هزني الخوف من جذري من هذا الاستقبال العدائي الذي اختفى واضمحل بابتسامة عدلي الودودة، ورقته المعهودة، وجلسنا في مرسمه الخاص بين لوحاته ورائحة عالمه الحقيقي، تحدثنا في الفن والحياة وتقاسمنا العيش المصري بالكباب والكفتة والشاي المعطر بالنعناع، وكبرت صداقتي مع هذا الرقيق الذي تحزم رقته زوجته الجميلة سهير التي استطاعت أن تقود دفة الحياة بينهما، حافظ عدلي على نقائه في زمن تغيرت فيه المعالم بسرعة البرق، حتى أنه بات يصعب على الواحد التعرف على من عرفهم، فالأغلبية انسلخت من شكلها ومن ماضيها ومما كانت عليه، ما عدا أقلية ما زالت تحافظ على أصالتها رغم التيار الجارف، وعدلي رزق الله واحد منهم. عدلي علامة من علامات زمني الجميل الذي أحاطني بهؤلاء المعلمين، المبدعين الكبار الذين تعلمت منهم قيمة الفن الحقيقي، فزهور المحياة لعدلي كانت بؤرة نور شعت في روحي وأنا أتلمس بداياتي في خجل، وأجلس مع عدلي رزق الله والشاعر الكبير ادونيس، وأستمع لكلمات المبدع إدوار الخراط التي رشرشت زهور المحياة بماء الحياة، وزاوجت في ما بين الإبداعين، لتتركني في نشوة وسلطنة الفن العظيم المتكامل، والحلم بذات يوم أكون فيه بنفس الموقع. ونكاد نقترب كثيراً من الحلم حتى أننا كدنا نطرق بابه... يرسم عدلي كتاباتي في الصحراء والبحر والسفينة، المتمثل، في امرأة تعني للرجل الحياة والمصير، ومن ثم توقفنا، أخذتنا الانشغالات التي لا تنتهي والدنيا تدور بسرعة البرق، ودائماً نؤجل اليوم إلى الغد... حتى يفاجئنا الغد بمرض الصديق عدلي رزق الله الذي يمر الآن بمحنة صحية، نتمنى من الله القدير أن يمن عليه بالشفاء وبالصحة حتى يستمر في عطائه الذي يمس شغاف القلب، وفنه الخلاق الذي لا يشبه إلا صاحبه.
توابل
الساكن في رقة شفافيته
26-07-2010